الإثنين 20 شوال 1445
تفسير (الله نور السماوات والأرض)
الأحد 05 فبراير 2023 2:00 مساءاً
2139 مشاهدة
مشاركة

الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم

لما أمر الله -عز وجل- ببعض الأمور التي لا غنى للناس عنها، ونهى عن الأمور التي بارتكابها يحصل الضرر وحث على الآداب الشرعية بعد ذلك، بعد هذا كله بين سبحانه أن امتثال تلك الأوامر واجتناب تلك النواهي، والتزام تلك الآداب ينوّر الله تعالى قلوب بعض عباده فيوفقهم لفعل تلك المأمورات والاهتمام بها، وترك تلك المنهيات واجتنابها.

وفي مقابل ذلك يطمس -عز وجل- على قلوب بعض الناس، فلا يمتثلون أوامره، ولا ينتهون عما نهى عنه. وقد ضرب الله تعالى مثلين لهذين الفريقين: 

1- مثل لعباده المؤمنين.              2- مثل للكافرين.

وفي هذه الآية ضرب سبحانه المثل للمؤمنين، وسيأتي في قوله {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} الآية، وقوله {أو كظلمات} ضرب المثل للضالين.

قوله {الله} الله: علم على ذات الله عز وجل، وهذا الاسم يكون دائما متبوعا، ولا يكون تابعا لغيره، فنقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا نقول: بسم الرحمن الرحيم الله.

وقد قال بعض أهل العلم: إن الله هو اسم الله الأعظم، وفي هذ المسألة خلاف مشهور بين أهل العلم، والأقرب في هذه المسألة ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: أن اسم الله الأعظم ليس محددا ولا معينا، بل كل اسم دلَّ على صفات الكمال الذاتية، وكمال الصفات الفعلية فهو من الأسماء العظمى، فاسم (الله) مأخوذ من الإله، والإله هو المألوه، ولا يكون إلها إلا بكمال الصفات الذاتية والفعلية.

ومن الأسماء العظمى: الحي القيوم، فالحي دلَّ على صفات الكمال الذاتية لأن كمال الحياة، لا يكون إلا بكمال الموصوف، ولا يكون إلا بكمال صفات الحي، والقيوم دلَّ على كمال الصفات الفعلية لأنه هو القائم على عباده.

قوله {الله نور} هذا مثل قولك: زيدٌ كرمٌ، يعني أنه موصوف بالكرم، أو هو معطي الكرم. 

قوله {الله نور السماوات والأرض} اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على أقوال، والصحيح أن النور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله. 

وبناء على ذلك فتشمل ما يأتي: 

أولا: هو سبحانه وتعالى نور، فمن أسمائه النور، ومن صفاته أنه نور، واحتجب عن خلقه بالنور.

فمن أدلة كونه نورا ما يأتي: 

1- قوله تعالى {وأشرقت الأرض بنور ربها}، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء، قال السعدي: "علم من هذا، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضمحل، وهو كذلك، فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور، والقمر يخسف، والنجوم تندثر، ويكون الناس في ظلمة، فتشرق عند ذلك الأرض بنور ربها، عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم، وذلك اليوم يجعل اللّه للخلق قوة، وينشئهم نشأة يَقْوَوْنَ على أن لا يحرقهم نوره، ويتمكنون أيضا من رؤيته، وإلا فنوره تعالى عظيم، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه."

2- حديث عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه- قال: (لما توفي أبو طالب، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف ماشيا على قدميه، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فانصرف، فأتى ظل شجرة، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبانا علي فلا أبالي، إن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا قوة إلا بك)  [طب 14764]

3- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن ربكم تعالى ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه" [طب 8886، وقال الهيثمي: "فيه أبو عبد السلام، قال أبو حاتم: مجهول، وعبد الله بن مكرز أو عبيد الله على الشك لم أر من ذكره"، مجمع الزوائد 1/85]

4- ما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي كان يدعو في قيام: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام -وفي رواية قيم- السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن) [خ 7442، م 769]

ووجه الدلالة أن كونه نور السماوات والأرض، مغاير لكونه رب السماوات والأرض، ومعلوم أن إصلاحه السماوات والأرض بالأنوار وهدايته لمن فيهما هي ربوبيته، فدل على أن معنى كونه نور السماوات والأرض أمر وراء ربوبيتها.

فالحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسماوات والأرض وهو: ربوبيتها وقيوميتها ونورهما، فكونه سبحانه ربا لهما وقيوما لهما ونورا لهما أوصاف له، فآثار ربوبيته وقيوميته ونوره قائمة بهما، وصفة الربوبية ومقتضاها هو المخلوق المنفصل، فمن ربوبيته خلق الشمس والقمر وأضاء لنا الكون، وصفة النور قائمة به سبحانه.

5- عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعا: (بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله {سلام قولا من رب رحيم}، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم) [جه 184، قال الذهبي: "فيه فضل بن عيسى الرقاشي، وقال ابن معين : كان رجل سوء"، وقال ابن تيمية: "في إسناده مقال"، وضعفه الألباني]

6- حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعا: (إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله) [حم ، ت 2642، وحسنه الترمذي وابن العربي، وصححه البوصيري، وصححه الألباني والوادعي]

[ينظر مجموع الفتاوى 6/382، مختصر الصواعق المرسلة 1/419-431]

ومن أدلة احتجابه عن خلقه بالنور:

1- حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: (قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يُخفِض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار-، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) [م 179]، وهذا الحديث يدل على أن حجابه نور، ويدل على أنه جل وعلا نور، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحات وجهه)، أي ضياء وجهه وبهاؤه وجلاله عز وجل.

2- عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: (سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) [م 178]، وفي وراية (رأيت نورا) [م 178]

قال ابن القيم: " فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: معناه كان ثمّ نور، أو حال دون رؤيته نور فأنى أراه. قال: ويدل عليه" [اجتماع الجيوش الإسلامية 2/47]

ثانيا: هو سبحانه معطى النور الحسي، وهو ضوء السماوات والأرض، ولهذا فسر بعض العلماء هذه الآية بأنه: منوّر السماوات والأرض، فما أضاءت السماوات والأرض إلا بنوره، فهذه الشمس هو سبحانه الذي سخرها لتضيء للناس، ولولا تسخيره وتقديره لما أضاءت الشمس.

قال تعالى {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة} الآيات. 

ثالثا: هو سبحانه معطي النور المعنوي، فقد جعل كتابه نورا، ورسوله نورا، ودينه نورا، ولهذا فسر بعض العلماء هذه الآية بأنه هادي أهل السماوات والأرض، وعلى ذلك أدلة، منها: 

1- قوله تعالى {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين}

2- قوله تعالى {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} الآية.

3- وقال في الإنجيل {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين}

4- وقال في التوراة {قل من أنزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس}

5- وقال في القرآن {الذي يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصراهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}

6- وقال تعالى {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}

وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا) [خ 6316، م 763]

قوله {الله نور السماوات والأرض} يعتقد كثير من الناس أن الله تعالى يمن على عباده في هذه الآية بالنور الحسي فقط، وهذا قصور في تفسير الآية.

فالله تعالى يقول لنا إنه أعطانا النور الحسي الذي نرى به الأشياء من حولنا، والإنسان إذا ذهب النور الحسي، وحل الظلام، أخذ ينير ما حوله بحسب إمكانياته.

فهذا ينير بشمعة، وهذا ينير بضوء واحد، وثالث يضيء بكشاف قوي، فإذا ما طلعت الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل منا نوره؛ لأن نور الله كاف.

وهنا يشير الله تعالى إلى أنه كما أن نور الله كاف في الحسيات فنوره أيضا كاف في المعنويات.

فإذا شرع الله حكما معنويا ينظم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره.

وأنت لو حاولت السير في الظلام دون ضوء يهديك فسوف تصطدم بالأشياء من حولك، إما أقوى منك يحطمك ويؤذيك، وإما تكون أنت أقوى منه فتحطمه أنت.

وكذلك في المعنويات، فلو أردت هداية بدون نور فستسقط في مضلات الشهوات أو الشبهات.

قوله {الله نور السماوات والأرض}، هذا النور المعنوي عارضه بعض الناس بأهوائهم تارة، وبعقولهم تارة أخرى، ولأن سحر معارضة الشرع بالعقل أعظم، فقد انجرف نحوه أكثر الفرق الضالة، وما من بدعة أو ضلالة إلا ومنشؤها تقديم العقل على النقل في بعض الصور أو الأبواب.

وقد كان تقديم العقل على النقل ولو في صورة الاستفهام مدعاة لإنكار السلف رحمهم الله، كما قالت امرأة لعائشة -رضي الله عنها-: "ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت! كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" [خ 321، م 335]

وترتب على تقديم العقل على النقل ضلالات أخرى، ويمكن إجمال الكلام حول ذلك فيما يأتي:

أولا: تحكيم العقل

  • أول من قدم العقل إبليس حين قال لربه {أأسجد لمن خلقت طينا} {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}، ثم أغرى إبليس آدم بتقديم العقل أيضا، فعندما نهاه ربه عن الأكل من الشجرة، عارض إبليس هذا الأمر بالعقل، {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}، وبين له أن العقل يدل على أنها إذا كانت اسمها شجرة الخلد، فسوف تخلد، وأن أمر الله ليس له حكمة معلومة في ذلك. 
  • من تقديم العقل قول المعري:

يد بخمس مئين عسجد وديت           ما بالها قطعت في ربع دينار 

تناقض ما لنا إلا السكوت له            وأن نستجير بمولانا من النار 

لكنه أجيب في الرد عليه ردا مفحما فقيل له:

قل للمعـري عـار أيما عـارِ جهل الفتى وهو من ثوب التقى عاري

يد بخمس مئين عسجـد وديت        لكنهـا قطعـت في ربـع ديـنـار

حماية النفس أغلاها وأرخصـها        حمايـة الـمال فافهـم حكمة الباري

وقال له علم الدين السخاوي:

عـز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري 

وقال له الشيخ عبد الوهاب المالكي:

صيانة العضو أغلاها وأرخصها          صيانة المال فافهم حكمة الباري

وقال له الإمام ابن الجوزي: "لما كانت اليد أمينة كانت ثمينة فلما خانت هانت"

  • كما أن العقل يسلم لله تعالى في قدره، إما مكرها على ذلك، أو راضيا بذلك، فلا بد له من التسليم بالقضاء والقدر شاء ذلك العقل أم أبى، بل إن العقل يسلي نفسه في القضاء والقدر ويحدث النفس أن الرب أعلم بالأصلح، وقد قدّر الخير. فلماذا لا يسلم لربه في الشرع أيضا، ويقول لنفسه إن الله هو أعلم بما يصلحني. 
  • العقل له حدود كما أن السمع له حدود، والبصر له حدود، وحواس الإنسان كلها لها حدود، ولهذا قال الله لموسى {لن تراني} ولم يقل له (لا يمكن أن تراني)، بل المعنى أنك في حالك الآن لا يمكنك رؤيتي، ولهذا قال تعالى عن الإنسان يوم القيامة {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}، ينظر إلى ما لم يتمكن من النظر له سابقا. 

وهكذا الإنسان لو قال أريد أن أرى الشمس بعيني بدون حماية وأقترب منها حتى أعرف حقيقتها فإنه سيحرق نفسه، لكن لو احترم قدراته سلمت له حاسته. 

ومثل ذلك أن الإنسان بسمعه لا يستطيع إدراك كلام النمل، فلا يمكن لأجل عدم إدراك ذلك بالسمع أن ينكره.

  • حتى يحكم العقل على شيء لا بد أن يتصور طرفي الأشياء ووسطها، لأنه لو اطلع على الغالي والوسط فسوف يقول عن الوسط إنه متساهل، ولو اطلع على المفرط والوسط سوف يقول عن الوسط إنه غالي.
  • سبب سطوة العقل عند الغرب ما حصل من سطوة الكنيسة على حياة الناس، كما سيأتي في موضوع الحرية. 
  • وتحكيم العقل مضطرب، لأن عقل هذا مختلف عن عقل هذا، بل عقل الشخص الواحد يختلف من زمن لزمن، فقد كذب كفار قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة الإسراء والمعراج بحجة أنها مخالفة للعقل والمنطق، ولو كانوا حدثوا في هذا العصر أن رجلا سافر إلى بيت المقدس في ليلة لكان موافقا للعقل والمنطق!

وأيضا أنكر بعض العقلانيون حديث الذبابة بحجة أن العقل لا يدل عليه، فلما جاء العلم وأثبته رجعوا للنقل، وهذا حقيقته عدم التصديق بالنقل؛ لأنك لم تصدق بالنقل إلا لموافقة العقل له، فهو تحكيم واحتكام للعقل. 

ثانيا: المرأة

  • سطوة الإعلام وتكرار عرض الأفكار يعطيه طابع الحقائق.
  • لو أن الرجل أراد تعداد ما ينقصه لأمكن أن يكون في موضع الظلم كما أن المرأة تضع نفسها في موضع الظلم، فقد حرم الله عليه لبس الذهب، وحرم عليه الحرير، وجعله هو المنفِق والمرأة منفَق عليها، وهو الذي يتعب ويكد، والمرأة مرتاحة، وهو الذي يدفع المهر، وهو الذي يلزم بالصلاة في الجماعة، ويلزم بالجهاد وإزهاق نفسه.
  • اتجهت العقلية الليبرالية إلى مفهوم (المساواة) فحرفت بعض النصوص الشرعية، وتشبثت بنصوص أخرى لتقرير المساواة المطلقة بين الجنسين، والله تعالى قد بين لما نذرت أم مريم ما في بطنها، فقال {وليس الذكر كالأنثى}

والذي يريد المساواة بين الجنسين لن يتمكن من المساواة في الخصائص كالحيض والنفاس، وشكل الجسم والنفسية ونحو ذلك.

والذي يريد المساواة بين الجنسين كالذي يأتي إلى الذهب والفضة والحديد ويريد المساواة بينها جميعا بحجة أنها معادن.

ثالثا: الحرية

  • الإنسان يبحث عما ينقصه، ولا يرى ما بين يديه مما يملك، فلو سرق منه شخص ألف ريال، لظل يبحث عنه ليسترد الألف، ولو عوضه آخر بخمسة آلاف لظل طالبا لتلك الألف، لأنه يعتبر أنها قد أنقصت من ماله وقدره. 

وهكذا يفعل الإعلام مع فكر الحرية، فهو يعرض القيود التي على الشخص، ولا يرى الحرية الواسعة التي منحها الله للعبد في شتى مجالات الحياة. 

  • تكرار عرض الأفكار على العقل يصبغها بصبغة الحق، إلا إذا كان العقل متوازنا
  • اعترض الكفار منذ الزمن بنفس العذر، وطالبوا بالحرية، فقوم شعيب طالبوا بالحرية الاقتصادية {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}

وساوم كفار قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعبدوا آلهته نصف عام، ويعبد آلهتهم نصف عام، فنزلت سورة الكافرون، ونزل قوله تعالى {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} الآيات، وهذا من نوع طلب الحرية الدينية.

وطالب قوم لوط بالحرية الجنسية، قال تعالى {وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}

  • سبب نشوء فكرة الحرية في الغرب هو سطوة الكنيسة، واحتكارهم التوراة لهم، وتفسيرها عليهم، حتى قال بعض العلماء إن التوراة لم تحرف من جهة اللفظ، وإنما حرفت من جهة المعنى، فصاروا يفسرون دينهم بحسب أهوائهم، بما يضمن لهم بقاء الهيمنة على الناس، كما قال تعالى {يا أيها الذي آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}، فأخذ بعض المنتسبين للإسلام نفس الأمر في جهة الإسلام، مع أن الإسلام يدعو للعلم، ويدعو لقراءته، وقال تعالى {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (بلغوا عني ولو آية)، وقال (نضر الله امرأ سمع مقالتي) الحديث إلى قوله (فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، وقال (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران).
  • الحرية ليس لها حدود، فمع أن الناس تنكر بعقولها وفطرتها عمل قوم لوط، إلا أن الحرية التي وصلت إليها البشرية في عصرنا الحاضر أحط مما وصل إليه قوم لوط، فأصبح اليوم علاقة نفس الجنس زواجا.
  • ليس هناك دين سماوي ولا وضعي يرضى بالحرية المطلقة، ولهذا الشريعة جاءت بتقييد الحرية فيما فيه علاقة للإنسان بغيره، وإطلاق للحرية بضوابط في الأشياء التي لا علاقة للإنسان بغيره فيها. 

وحتى أصحاب الإمارات والسياسات لا يرضون الحرية المطلقة إذا مست عروشهم، وأقضت مضاجعهم. 

  • ومن نتائج الحرية أن انعدمت بعض المبادئ الإسلامية في الدول الغربية مثل بر الوالدين والإحسان إلى الفقير، ونعني إحسان الفرد وليس إحسان الدولة، ورعاية الأولاد، وتربيتهم، ومتابعتهم، وأصبحت الحرية تعني الانحلال والتفسخ. 

قوله {السماوات والأرض} السماء لغة: كل ما علا الإنسان فهو سماء، فسقف البيت سماء لمن هو تحته لأنه عال عليه، والمراد بها في الآية السماء المعروفة، وجمعت لأنها سبع سماوات، بينما أفرد الله الأرض، وهي دائما تأتي في كتاب الله تعالى مفردة، ولكنها ليست واحدة، إنما هي سبعة أيضا، والدليل على أن الأرض سبع أرضين قوله تعالى {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن}.

والمثلية هنا: تحتمل المثلية في الصفة، وتحتمل المثلية في العدد، وطالما أن المثلية في الصفة غير متحققة كما نرى، فلم يبق إلا المثلية في العدد، وهذا واضح في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من اقتطع من الأرض شبرا بغير حق، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)

قوله {مثل} المثل: تشبيه شيء غير معلوم بشيء آخر معلوم، فهي من المِثل، أو هو: قول محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حكي فيه، بحال الذي قيل لأجله، أي يشبه مضربه بمورده، ومورد المثل هو الحال التي صدر فيها المثل عن مرسله، ومضربه الحال التي شبهت بها.

والمثل يضرب بغض النظر عن تطابق المضرب مع المورد، فمثلا لو أجاب الطالب على السؤال بدون قصد، تقول: رب رمية من غير رام، وليس هنا رام أو رمح، لكنه مثل أطلق على من أصاب شيئا بدون قصد الإصابة. 

فلو وجدت مثلا تلميذا مهملا تكاسل طوال العام، ولم يذاكر، فلما حضر الامتحان راح يجتهد في المذاكرة، فتقول له: (قبل الرماء تملأ الكنائن) يعني: قبل أن تصطاد بالسهام يجب أن تعدها أولا وتملأ بها كنانتك، فهذا مثل يضرب للاستعداد للأمر قبل حلوله.

والمثل يبقى على حاله من أسلوب الخطاب وإن تغيرت الأحوال، مثل ما لو أرسلت رسولا يقضي لك حاجة، فعندما يعود تقول له: (ما وراءكِ يا عصام) هكذا بالكسر في خطاب المؤنث مع أنه رجل، لماذا؟ لأن المثل قيل أول ما قيل لمؤنث، فظل على هذه الصيغة من التأنيث حتى ولو كان المخاطب مذكرا.

وقصة هذا المثل أن الحارث ملك كندة أراد أن يتزوج أم إياس، وبعث من تخطبها له، وكان اسمها عصام، فلما ذهبت إليها، قالت لها أمها: إن فلانة جاءت تخطبك لفلان، فلا تخفي عنها شيئا، ودعيها تشمك إن أرادت، وناطقيها فيما استنطقتك به، فلما دخلت على الفتاة وأرادت أن ترى جسمها خلعت ثوبها، وكشفت عن جسمها، فقالت المرأة: (ترك الخداع من كشف القناع) فسارت مثلا، ثم عادت إلى الحارث فاستقبلها متعجلا ردها فقال: (ما وراءك يا عصام) يعني: ما الخبر؟ فظل المثل هكذا للمؤنث، وإن خوطب به المذكر.


ومنه قوله تعالى {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} 

وقوله تعالى {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} 

وقوله تعالى {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} 

قوله {مثل نوره} قد يضرب المثل للأعلى بالأدنى، وفي ذلك قال أبو تمام قصيدة طويلة في مدح الخليفة أحمد بن المعتصم، وكان من آخر ما قال:

إقدام عمرو في سماحة حاتم      في حلم أحنف في ذكاء إياس 

يقصد أن الأمير فيه صفات أولئك المشهورين، فشبهه في الشجاعة بعمرو بن معدي كرب، وفي الكرم بحاتم طي المشهور، وفي الحلم بالأحنف بن قيس، وفي الذكاء بإياس بن معاوية بن قرة.

وقد ذكروا عن الأحنف بن قيس، أن رجلا أدركه في الطريق، فجعل يسبه أقذع السب وهو يماشيه، فلما قربا من الحي، وقف الأحنف وقال: يا أخي إن بقي لك شيء من السب فقله هاهنا، فإني أخشى أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك!

وذكروا عن إياس أنه سمع نباح كلب لم يره، فقال: هذا نباح كلب مربوط على شفير بئر، فنظروا فكان كما قال، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت عند نباحه دويا من مكان واحد، ثم سمعت بعده صدى يجيبه، فعلمت أنه عند بئر.

فلما قال أبو تمام تلك الأبيات، قال له الكندي وكان حاضرا وأراد الطعن عليه: ما صنعت شيئا، شبهت أمير المؤمنين بصعاليك العرب! ومن هؤلاء الذين ذكرت؟! الأمير فوق من وصفت، وقد ضربت الأقل مثلا للأعلى.

فأطرق قليلا، ثم زاد في القصيدة بيتين لم يكونا فيها، فقال:

لا تنكروا ضربي له من دونه    مثلا شرودا في الندى والباس

فالله قد ضـرب الأقل لنوره   مثلا من المشكـاة والنبراس 

فأعجب ذلك الأمير، ولهذا قال بعضهم في أبي تمام: إن عقل هذا يأخذ من عمره، ومات أبو تمام صغيرا. [العمدة في محاسن الشعر 1/192، وفيات الأعيان 2/15، مجمع الأمثال 1/325]

قوله {مثل نوره} هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أبي بن كعب وغيره، وقد اختلف في تفسير الضمير في {نوره}:

فقيل: هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي: مثل نور محمد -صلى الله عليه وسلم-.

وقيل: إن الضمير يعود على المؤمن، أي: مثل نور المؤمن.

والصحيح أنه يعود على الله عز وجل والمعنى: مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده، وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا التقدير مع كونه موافقا للأصل وهو عود الضمير إلى المذكور، فهو كذلك يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم معنى ولفظا.

وهذا النور يضاف إلى الله تعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه، ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل.

فالفاعل: هو الله تعالى مفيض الأنوار الهادي لنوره من يشاء، والقابل: العبد المؤمن، والمحل قلبه، والحامل: همته وعزيمته وإرادته، والمادة: قوله وعمله، وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم. [اجتماع الجيوش الإسلامية 2/49]

قوله {مثل نوره} للعلماء في التشبيه في هذا التشبيه قولان: 

القول الأول: أن التشبيه تشبيه تمثيل، فشبه الله تعالى النور الحاصل من هذا الزيت بالنور الحاصل في قلب المؤمن، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به، وهذا أسلم قول وأبعده عن التكلف، وأمثال القرآن تأتي على نحو هذا. 

قال ابن القيم: "فتأمل صفة مشكاة، وهي كوة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به." [اجتماع الجيوش الإسلامية 2/50]

القول الثاني: أن التشبيه في الآية تشبيه مفروق، أي تشبيه مفصل، فيأتي بكل مثل وما يقابله، فشبه الله تعالى صدر الإنسان بالمشكاة، "فيها مصباح" والمصباح نور الإيمان، "في زجاجة" والزجاجة قلب الإنسان، يوقد هذا المصباح من زيت هو زيت طاعة الله تعالى وامتثال أوامره.

وقال آخرون: إن الزيت الذي يضيء به المصباح هو الفطرة ففطرة المسلم صافية مضيئة، والنار هو العلم الرباني والإيمان الراسخ، فإذا وصل النار إلى الزيت أضاء، وكذلك إذا وصل العلم الرباني والإيمان الراسخ إلى هذه الفطرة أضاءت بالمصباح الذي في الزجاجة.

قوله {مثل نوره} هذا المثل الذي ضربه الله تعالى لنوره في قلب عبده المؤمن، ضرب مقابله مثلين لمن يعيش في ظلمات الجهل والكفر والهوى والنفاق، وذلك في قوله {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} الآية، وقوله {أو كظلمات في بحر لجي} الآية، فجعلهم على قسمين: 

القسم الأول: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى وهم أهل جهل وضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه ويوالون أهله، وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون.

فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان كما هو حال من أمّ السراب، فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين سبحانه وتعالى فحسب له ما عنده من العلم والعمل، ووفاه إياه بمثاقيل الذر، وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباء منثورا.

القسم الثاني: أصحاب الظلمات وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاط بهم من كل وجه فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلا، فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى كظلمات مجتمعة.

وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم. [اجتماع الجيوش الإسلامية 2/55]

قوله { كمشكاة} المشكاة: يقول أكثر المفسرين: إنها الكوة، وهي كالحفرة في الحائط، وقال بعض العلماء: إن المشكاة هي الفتيلة التي في القنديل.

قوله {فيها مصباح} وإنما جعل المصباح داخل الكوة ليشتد الضوء، فإنه كلما انحصر المكان كلما ازداد الضوء شدة.

قوله {المصباح في زجاجة} ليس مصباحا عاديا بل في زجاجة، وهي تحمي ضوء المصباح أن يبعثره الهواء من كل ناحية، وفي نفس الوقت تسمح له بالقدر الكافي من الهواء لاستمرار الاشتعال، وبذلك يكون الضوء ثابتا صافيا لا يصدر عنه دخان يعكر صفو الزجاجة.

قوله {الزجاجة كأنها كوكب دري} في قوله {دري} ثلاث قراءات:

الأولى: دُرِّيٌ، وهي قراءة أكثر القراء.

الثانية: دِرِّيء، بكسر الدال، مع همزة، وهذه قراءة أبي عمرو والكسائي

الثالثة: دُرِّيء، بالهمزة، وهي قراءة شعبة.

على القراءة الأولى: {دُرِّي} أي منير، ومضيء كإضاءة الدُّر، فيكون قوله تعالى: {دُرِّي} أي منسوبا إلى الدُّر، وهو الياقوت.

والقراءتان الأخريان مأخوذتان من الدَّرء، وهو الدفع، لأن الكواكب تدرؤ بها الشياطين، والمعنى أن هذه الزجاجة تدرأ بنفسها الظلام وتبعده، كما يدرأ الكوكب الشياطين. 

قوله {الزجاجة كأنها كوكب دري} فالزجاجة من صفائها وضيائها كأنها كوكب وهي في مشكاة فتزيد ضوءها قوة.

قوله {يوقد} قوله {يوقد} يعود على المصباح، فصار المصباح داخل الكوة في زجاجة تضيء، وفي {يوقد} ثلاث قراءات:

1- {يُوقَدُ من شجرة مباركة} وهي قراءة نافع وحفص وابن عامر، فالذي يوقد هو المصباح.   

2- {تُوقَدُ من شجرة مباركة} وهي قراءة شعبة وحمزة والكسائي، فيكون قوله {توقد} عائدا على الزجاجة، والزجاجة لا توقد بنفسها ولكن باعتبار ما بداخلها.

3- {تَوَقَّدَ من شجرة مباركة} وهي قراءة باقي القراء، هو المصباح، فيكون على أنه فعل ماضي، أي توقد المصباح من شجرة مباركة.

قوله {من شجرة} أي: من زيت شجرة مباركة، وزيت هنا: محذوفة، بدليل قوله: {يكاد زيتها يضيء}

قوله {مباركة} والشجرة المباركة هنا: هي شجرة الزيتون، وهي الشجرة التي أشار إليها الله تعالى في قوله {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} والدهن: يستعمل في الإضاءة، وصبغ للآكلين: إدام يؤكل.

وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام، والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، يريد أرض الشام.

قوله {زيتونة} بيان للشجرة، أنها زيتونة.

قوله {لا شرقية ولا غربية} فهيا أقوال للمفسرين، ولكن أقرب الأقوال: أن هذه الشجرة ليست شرقية فقط، ولا غربية فقط، فلو كانت شرقية لما عرضت لضوء الشمس في الغروب، ولو كانت غربية لما عرضت لضوء الشمس في الشروق، ولو كانت الشجرة وسطا لا شرقية ولا غربية، فإنها تتعرض للشمس ويكون زيتها بهذا أصفى ما يكون، ويكون معتدلا مشرقا.

قوله {لا شرقية ولا غربية} نفي شيئين يكون على وجهين:

الوجه الأول: إذا كان الشيئان المنفيان متضادين، فهذا يدل على أن الأمر متوسط بينهما، مثل هذه الآية، ومثل قولك: الرمان حلو حامض، ومثل قوله تعالى {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}، ومثل قول المرأة الرابعة من حديث أم زرع: (زوجي كليل تهامة لا حَرٌّ ولا قُرُّ)، أي وسطاً بين الحر والقُر.

الوجه الثاني: إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين، فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى {وظل من يحموم لا بارد ولا كريم}، ولهذا لم يقل لا بارد ولا حار، ومثل وقول المرأة الأولى من نساء 

حديث أم زرع: (زوجي لحم جَمَل على رأس جبَل، لا سَهْلٌ فيرتقى ولا سمين فينتقل)

وهذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء، وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو: {فلا صدَّق ولا صلىَّ}، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)

قوله {لا شرقية ولا غربية} يشير الله تعالى إلى أن المؤمن الذي هو على نور من ربه، وسط بين الغالي والجافي، كما أن الشجرة لا شرقية ولا غربية.

والوسطية في هذه الأمة ذكرها الله تعالى في قوله {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قول غير واحد من السلف أن الوسط هنا يعني العدل.

ولهذا جاء في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا: (يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول نعم يا رب، فتُسأل أمته، هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} قال عدلا) [خ 3339]، والعدل يقبل كلامه، ويصدق، ولهذا تصدق هذه الأمة في شهادتها على سائر الأمم. 

والوسطية هي ما شرعه الله تعالى لهذا الأمة، وليس مصطلحا فضفاضا يحدده كل واحد على حسب ما يريد، ولهذا جعل الله تعالى هذه الأمة وسطا، فهذه الوسطية للأمة مجعولة، ولم يقل في الآية (كونوا وسطا)، ليدل على أن معيار الوسطية هو ما يريده الله تعالى من عباده، وما سوى ذلك هو عدول عن الطريق الوسط.

وإذا أراد البشر معرفة الوسط، فلا بد أن يكونوا على علم بجميع أحوال الشعوب والأمم السابقة وجميع الأفكار في جميع الجوانب من العقائد والأخلاق والسلوك والمعاملات وغير ذلك، حتى يتمكنوا من تحديد الوسط، ولن يتمكنوا إلا في حدود طبيعتهم البشرية. 

‏ولهذا جاء في حديث جابر وابن مسعود -رضي الله عنهما- قال: (كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فخط خطا، وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم تلا هذه الآية {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [حم 4131، جه 11، ونص الحديث مجموع من عدة روايات له]، فهذه السبل الكثيرة لا يمكن معرفة الوسط إلا بإدراكها كلها.

وقد يظن بعض الناس أن الوسطية هي التوسط بين أمرين أو بين رقمين، وهذه وسطية حسابية وليست هي الوسطية الشرعية؛ لأن الوسطية لا يمكن إدراكها إلا بإدراك جميع الشعوب وجميع الأمم ‏وجميع الأفكار، وهذا أمر لا يعلمه إلا الله جل وعلا.

وحتى الوسطية الحسابية إنما هو وسطية نسبية، فلو أخذ رجل رقم واحد، ورقم ثلاثة، وقال إن رقم اثنين هو الوسط بين الأرقام، لما كان كلامه صحيحا من حيث الجملة وإن كان صحيحا بنظرة معينة.

ولو كان رجل في مكان بارد وآخر في مكان حار، وثالث في مكان وسط، ثم خرج الذي في البارد إلى المكان الوسط لظن أنه هو الحار وأن الأبرد منه هو البرد الشديد وأنه هو الوسط، وهكذا العكس. 

لهذا تجد أن الوسطية جاءت ممدوحة في الشريعة في مثل قوله تعالى {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، وفي مثل قوله تعالى {وكذلك جعناكم أمة وسطا}.

وجاءت الوسطية مذمومة في مواضع أخرى، كما في وصف المنافقين {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}، وكما وصف الله تعالى {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم}

بل ذكر الله تعالى لفظ {بين ذلك سبيلا} في موضع على سبيل المدح، وفي موضع على سبيل الذم، فمما جاء على سبيل المدح {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}

وجاء على سبيل الذم في قوله {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا}

فالوسطية المطلوبة في القرآن تجدها دوما وسطية حق بين باطلين، أما الوسطية المرفوضة في القرآن فهي وسطية بين الحق والباطل.

لهذا تجد أن كفار قريش كانوا يعادون النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويكرهون دينه ويريدون أن يقتلوه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعاديهم ويجهر بدينه ضدهم، أما أبو طالب ‏فكان‏ يدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك كان على كفره، وإذا نظرنا إلى ما فعله أبو طالب فقد توسط بين الأمرين، وكان بينهما مع أنه على كفره.

والمنافقون أرادوا أن يفقوا موقفا وسطا بين النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين معه، وبين الكفار والمشركين، وقد توعدهم الله تعالى بأنهم {في الدرك الأسفل من النار}

ولهذا استغل الإعلام المعاصر هذه الفكرة، وصنع تيارات متنافرة، واحدة في الجنب اليمين، وواحدة في الجانب اليسار، ليقول للناس بعد ذلك الوسط ههنا. 

ويريدون من خلال تسويق فكرة الوسطية تسويق الأفكار الباطلة، فيأتون إلى الانحراف الخلقي والزنا والعهر ويقولون هذا تفريط، ثم يأتون إلى الحجاب والنقاب ويقولون هذا تشدد وتزمت، ليظهروا بعد ذلك بالوسط وهو التبرج. 

ومثل ذلك يأتون إلى التيار الإلحادي ويقولون هو تفريط، ثم إلى الإسلام ويقولون تشدد، ليسوقوا للتيار الليبرالي.

وكل ما سبق يرجع إلى أزمة المصطلحات التي ابتليت بها هذه الأمة، وقد استخدمها الكفار من قبل، لكنها صارت حربا أكثر شراسة بسبب تسلط الإعلام الفاسد الذي يريد تغيير مصطلحات الناس وقناعاتهم. 

ولهذا جاء في حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعا: (يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) [حم 17607، ن 5658، د 3688، وصححه الألباني]

وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء، وإنهم يسمونها العتمة وإنهم يعتمون بحلاب الإبل) [حم 4674، م 644] أي يؤخرون حلب الإبل، وسبب النهي أحد احتمالات ثلاثة:

الأول: أن الأعراب يسمونها العتمة لأنهم يعتمون بحلاب الإبل، فنسبوا الأمر الديني وهو الصلاة إلى أمر دنيوي.

الثاني: أن الأعراب كانوا يفعلون ذلك -يعني تأخير حلب الإبل- وقت المجاعة والشدة، وذلك تهربا من إعطاء الصعاليك والمحتاجين، فنهي عن ذلك.

الثالث: أن ذلك لعدم التشبه بالأعراب.

وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا}، مع أن كلمة (راعنا) ليس فيها شيء، لكنها صارت مصطلحا لأهل الباطل يريدون به الرعونة. 

ودخل الإعلام الغربي على المسلمين ليسمي الجهاد إراهابا، والخنوع والخضوع سلام عالمي، والكفر والإلحاد فكر إسلامي، والكافر يسمى الآخر، والصلاة شعائر دينية، والشورى ديمقراطية، والضلال في العقيدة يسمى فلسفة إسلامية، والخمر مشروبات روحية، والزنا حرية شخصية، والرقص فنا. 

وحتى بعض المصطلحات الفقهية الحادثة سببت سوء فهم لدى الناس، مثل مصطلح المخيط في الحج.

ومثله مصطلح التراث الذي أطلق على كل ما هو قديم، ليبني الناس عليه بعد ذلك فلسفة نقد التراث، وأن كل تراث يمكن نقده وتغيره. 

قوله {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} أي لأجل صفاء الزيت ورونقه وبهائه وبياضه، وعلامة أن في قلب الإنسان نور الهداية: أن يكون بصيرا بما ينفعه مبتعدا عما يضره، فيكون فاعلا للطاعات بعيدا عن المحرمات، يخشى من أي شيء يطمس عليه هذا النور.

قوله {نور على نور} فالأنوار المنبعثة ثلاثة: نور الزجاجة، ونور المصباح، ونور الزيت.

وقال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى {نور على نور} أي نور محمد صلى الله عليه وسلم على نور إبراهيم عليه السلام وهو قول باطل، لأنه مخالف للفطرة.

ويمكن أن نقول: نور على نور أي نور الزيت على نور النار، والمعنى: نور الفطرة على نور الطاعة فهذا مما يزيد المؤمن إيمانا.

قوله {نور على نور} يلاحظ في موضوع النور، أن الشريعة وضحت أن المؤمن في نور وعلى نور في الدنيا وفي القبر وفي عرصات القيامة، أما في الدنيا فكما في هذه الآية، وأنا في القبر فكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه، وافسح له في قبره ونور له فيه}، وفي عرصات القيامة قال تعالى {يوم يقوم المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم}، وفي الحديث (ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا، ثم يطفئ نور المنافقين)، وفي رواية: (فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين فقالوا للمؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم}).

قوله {نور على نور} فيه دليل إلى ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.

قوله {يهدي الله لنوره من يشاء} لما كان هذا النور من عنده عز وجل قال {يهدي الله لنوره من يشاء} أي ممن علم منه الطهارة والنقاء.

قوله {ويضرب الله الأمثال} يستخدم لفظ "ضرب" في اللغة كثيراً، وقد جمع أغلب تلك الاستخدامات، مع بيان السبب في اختلاف تفاسيرها الراغب الأصفهاني حيث قال: "الضرب إيقاع شيء على شيء، ولتصور اختلاف الضرب خولف بين تفاسيرها:

كضرب الشيء باليد والعصا والسيف، ونحوها، وضرب الأرض بالمطر، وضرب الدراهم.. والضرب في الأرض الذهاب فيها هو ضربها بالأرجل.. وضرب الفحل الناقة تشبيهاً بالضرب بالمطرقة كقولك طرقها تشبيهاً بالطرق بالمطرقة، وضرب الخيمة بضرب أوتادها بالمطرقة.. وضرب اللبن بعضه على بعض بالخلط، وضرب المثل هو من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره"

وضرب المثل يرجع إلى أربعة معان رئيسية، هي:

أولاً: نصب المثال وإظهاره للمخاطبين لتستدل عليه خواطرهم كما تستدل على الشيء المنصوب نواظرهم، وهو مأخوذ من ضرب الخيمة، أي: نصبها.

ثانياً: التقدير، قال ابن تيمية: "فالأصل فيهما [الذي يقاس عليه] هو المثل، والقياس هو ضرب المثل، وأصله -واللَّه أعلم - تقديره، فضرب المثل للشيء تقديره له، كما أن القياس أصله تقدير الشيء".

ثالثا: ضرب المثل: بمعنى قوله وإطلاقه والتمثل به في الحالات التي تشبه الحالة الأولى، وهو ألصق بالأمثال السائرة، وهو مأخوذ من المعنى العام للضرب، وهو: إيقاع شيء على شيء، حيث يتم إيقاع المثل السائر على الحالة المناسبة للتشابه بينهما.

رابعاً: الضرب للمثل بمعنى التلقيح، قال ابن تيمية: "وضرب المثل لما كان جمعاً بين عِلْمين يطلب منهما علم ثالث كان بمنزلة ضراب الفحل الذي يتولد عنه الولد، ولهذا يقسمون الضرب إلى ناتج وعقيم كما ينقسم ضرب الفحل للأنثى إلى ناتج وعقيم"

وهذا النوع مأخوذ من ضرب الفحل الناقة، وهو ألصق بالأمثال القياسية، التشبيهية والأنموذجية.

فالأمثال القياسية تلقح الأفكار وتنبهها على القياس والتفكر والاعتبار.

ومن جهة أخرى يتم فيها التلقيح بين الفرع والأصل ليحصل النتيجة الموجبة وهي التي تسمى الناتج حيث يُعْطَى حكم الأصل للفرع، أو تكون نتيجة الاعتبار سالبة وهي العقيم التي لا يلحق بها الفرع بالأصل في الحكم لوجود مانع. [الأمثال القرآنية القياسية 1/89]

قوله {ويضرب الله الأمثال} لأمثال القرآن عدة أغراض وأهداف منها: 

أولا: ضرب المثل لإيضاح المراد وتقريبه للمخاطب، ومن أمثلة هذا النوع ضرب المثال لما يكون في الجنة من النعيم المادي المحسوس الذي ليس بمقدور المخاطبين إدراكه بحواسهم فيقربه الله بمثال محسوس لهم، كما قال تعالى {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون}، وقوله: {إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر}

وقد يشبه لهم ما يراد تقريبه من الأمور الغيبية بأمر محسوس لهم إحساسا وجدانيا، حيث يستقر في أفهامهم وشعورهم قبح ذلك الشيء أو حسنه، ومن ذلك قوله تعالى: {طلعها كأنه رءوس الشياطين}، حيث استقر في حس المخاطبين الوجداني قبح الشياطين وخبثها وشناعة منظرها.

ثانيا: إقامة الحجة والبرهان، ومنه قوله تعالى {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}، وقوله: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج}، وقوله {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}

ثالثا: ضرب الأمثال لغرض الإقناع بذكر محاسن الحق والترغيب فيه، وذكر قبائح الباطل والتنفير منه، ومنه قوله {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}، وقوله {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}، وقوله: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم}، وقوله {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} 

رابعا: الدلالة على كثير من الفوائد العلمية والحكم،.

خامسا: التربية بإبراز القدوة الحسنة، والحث على الاقتداء بها، والتنفير من ضدها، مثل قوله {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}، وقوله {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون}، وقوله: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا}، وقوله {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ...}، وقوله: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون..} 

سادسا: أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم تعبير الرؤيا، مثل ذلك تعبير النساء بالبيض، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {كأنهن بيض مكنون}، وتعبير الرماد بالعمل الباطل، مأخوذ من قوله تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف..}، وتعبير النخلة بالرجل المؤمن، مأخوذ من قوله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة..} [الأمثال القرآنية القياسية 1/156]

قوله {ويضرب الله الأمثال للناس} قال تعالى في سورة إبراهيم {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون}، وبين سبحانه وتعالى أيضا أن هذه الأمثال لا يعلمها إلا العلماء فقال {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.

وبين في آيات أخرى، أن هذه الأمثال قد تكون سببا في هداية قوم، وسببا في إضلال قوم آخرين، في قوله تعالى {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين} 

قوله {والله بكل شيء عليم} فعلم الله محيط بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه عليم، ووصف خلقه بأن عندهم علم، فقال {وفوق كل ذي علم عليم}، والفرق بين علم الله عز وجل وعلم البشر: من وجهين: 

الأول: أن علم الله كامل، وعلم البشر غير كامل.

الثاني: أن علم الله غير مسبوق بجهل ولا يلحقه نسيان، وعلم الإنسان مسبوق بجهل، معرض للنسيان 

من فوائد الآية: 

1- أن هداية الإنسان متعلقة بمشيئة الله.

2- تقريب المعلومات بضرب الأمثال بالمحسوسات من قوله {مثل نوره} 

3- أن الإيمان يزيد وينقص، من قوله {نور على نور} أي نور الفطرة على نور الطاعة.

4- أن هداية الله تعالى ينالها كل مريد للهداية بصدق، من قوله {الله نور السموات والأرض} فنوره شامل واسع.

5- أن القصد من ضرب المثل أخذ العبرة. ولهذا أمر الله تعالى بالاستماع له في قوله {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} 

6- أن مجاورة الصالحين تكسب الإنسان صلاحا بإذن الله، من التشبيه في قوله {كمشكاة فيها مصباح} لأن أصل المشكاة مظلمة فإذا دخل المصباح اكتسبت نورا. 

7- وسطية المسلم لا سيما أهل السنة والجماعة، من قوله {لا شرقية ولا غربية} فإن هذا الزيت الذي هو طاعة الإنسان وتمسكه بالدين وسط فلا إفراط ولا تفريط.

8- في الآية تصديق لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)، وهذا من قوله {نور على نور} 

9- أن طريق الهداية واضح، لأن الله تعالى وصفه بأنه نور، ولاشك أن النور واضح للإنسان وليس كالظلام، وقد أخبر الله عز وجل عن طريق الهداية بأنه الصراط المستقيم، والصراط طريق واسع واحد غير متشعب، بينما أخبر سبحانه عن الطرق الأخرى بأنها سبل لأنها ضيقة ومتشعبة فقال {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} والمراد بسبيله هنا أي طريقه، فإن قيل ما الجواب عن قوله تعالى {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} فوصف طريق الحق بأنه سبل، فالجواب: أن هذه السبل هي داخل الصراط الواسع، فالصراط يتضمن شرائع وأحكاما متعددة. 

10- من رحمة الله بعباده أن بين لهم الحق بأوضح دليل وأقرب برهان من قوله تعالى {ويضرب الله الأمثال} 

11- أن فيها بيان بما أخبر الله تعالى في قوله عن الشياطين {ويقذفون من كل جانب}، وهذا من قوله {كوكب دري} على القراءتين الثانية والثالثة في دري. 

12- أن من الأشجار ما هو مبارك ومنها ما ليس بمبارك من قوله تعالى {مباركة} ومن الشجر غير المبارك: الغرقد، والزقوم وهي الشجرة الملعونة في القرآن، وهذه الفائدة يستخلص منها فائدة أخرى وهي: 

13- أن بني آدم منهم من هو مبارك ومنهم من هو ليس بمبارك.

14- في الآية إشارة إلى أن زيت الزيتون مبارك.

15- إمداد الله تعالى لخلقه بما فيه حياتهم، فأمدهم بالنور، وهو نعمة عظيمة، ونعم الله على كثرتها، تدور على أمور ثلاثة: نعمة إيجاد، نعمة إعداد، نعمة إمداد.

16- أن نور الإيمان ينتصر ولو أحاط به الظلام والشرك ولو بعد حين، من قوله تعالى {كمشكاة فيها مصباح} يعني أن الظلام هو الذي يحيط بالنور لكن النور ينتصر في النهاية حتى وإن أحاط الظلام به فأخفاه، وهذا مصداق لقوله تعالى {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} وقوله تعالى {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} وقوله تعالى {ألا إن نصر الله قريب} وقوله تعالى {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} وقوله تعالى {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} وقوله تعالى {ألا إن حزب الله هم المفلحون}