الإثنين 20 شوال 1445
تفسير سورة الفاتحة
الأحد 05 فبراير 2023 2:00 مساءاً
2277 مشاهدة
مشاركة

تفسير سورة الفاتحة

سورة الفاتحة لها أسماء، منها:

1- (الفاتحة) لأنها سورة يفتتح بها القرآن الكريم، وهي كذلك أول ما يستفتح به في الصلاة بعد دعاء الاستفتاح.

2- (أم الكتاب وأم القرآن) وإنما سميت بذلك لأنها مشتملة على أصول المسائل التي توجد في القرآن وجملتـها، فهي مشتملة على التوحيد بأقسامه الثلاثة: من توحيد الألوهية {لله}، {إياك نعبد وإياك نستعين}، وتوحيد الربوبية {رب العالمين}، وتوحيد الأسماء والصفات {الرحمن الرحيم}، إضافة إلى اشتمالها على ذكر المعاد والجزاء والحساب والتحذير من طرق المخالفين لما عليه الأنبياء والمرسلين من اليهود الذين غضب الله عليهم والنصارى الذين ضلوا عن سواء السبيل بالجهل وعبادة الله على غير علم.

كما تضمنت السورة إثبات النبوات، من سته أوجه، أحدها: كونه رب العالمين، فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما، والثاني: اسم الله، وهو المألوه المعبود، ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله، والثالث: من اسمه الرحمن، فإن رحمته تمنع إهمال عباده، فمن أعطى اسم الرحمن حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظم من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب، والرابع: من ذكر يوم الدين، فما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه، والخامس: من قوله {إياك نعبد} فطريق التعبد لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم، والسادس: من قوله {اهدنا الصراط المستقيم} فالهداية: فهداية البيان والدلالة لا تحصل إلا من جهة الرسل. [مدارج السالكين 1/32]

وهذا اسمها عند جمهور العلماء وخالف في ذلك الحسن البصري وابن سيرين فقالا إن (أم الكتاب) هو اللوح المحفوظ، وكرها تسمية سورة الفاتحة بأم الكتاب وأم القرآن، والصحيح عدم كراهة ذلك، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم) [خ 4704]، وعنه -رضي الله عنه- مرفوعا: (الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني) [حم 9496، ت  3124].

3- (الحمد) كما جاء في حديث أبي هريرة (الحمد لله رب العالمين)

4- (السبع المثاني) كما في الآية الكريمة، وحديث أبي هريرة السابق، والله تعالى قد وصف القرآن كله بأنه مثاني، قال تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثاني} فمتشابها أي يشبه بعضه بعضا في الإتقان والإحكام والبلاغة والفصاحة، ومثاني أي تثنى فيها الأخبار، فإذا ذكر الجنة ذكر النار، وإذا ذكر المؤمنون ذكر الكافرين، وإذا ذكر الأولياء ذكر الأشقياء، كما قال تعالى {أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة}، وقال تعالى {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} وقال تعالى {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين}، وبعض العلماء يقول إن وصف الفاتحة بأنها مثاني، غير وصف القرآن بأنه مثاني.

5- (القرآن العظيم) كما سماها الله عز وجل لأنها مشتملة لأهم أصوله وقواعده ومبانيه العظام.

6- (الصلاة) والدليل على ذلك الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة مرفوعا أن الله عز وجل قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، وقال مرة فوض إلي عبدي، فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) [م 395]، فسماها النبي-صلى الله عليه وسلم- صلاة لأنها أهم أركان الصلاة.

7- (الرقية) كما في حديث أبي سعيد في الصحيح في قصة الأعرابي وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي سعيد: (وما يدريك أنها رقية) 

وسماها بعضهم (الشفاء) محتجين بحديث عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فاتحة الكتاب (شفاء من كل داء) [دمي 3370]، والحديث مرسل، وفي رواية (شفاء من كل سم) وهو ضعيف جدا، أو موضوع.

واختلف العلماء هل هي مكية أم مدنية، والأظهر أنها مكية؛ لأن الله تعالى منَّ على رسوله بقوله {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} وهي الفاتحة، وسورة الحجر مكية بالإجماع، كما أنه لا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، ولم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة.


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

** الاستعاذة مشروعة في مواضع، منها عند قراءة القرآن، وعند الغضب، وعند دخول الخلاء (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، وعند سماع نباح الكلب، ونهيق الحمار، وإذا فزع من النوم (أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)، وفي الرقية، وعند دخول المسجد (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)، وعند الوسواس، وإذا نزل منزلا، وفي أذكار الصباح والمساء (أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه).

** الاستعاذة بالله تعالى كانت سببا للنجاة من المرهوب، وحصول المطلوب، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في عدة مواطن من كتابه، منها:

1- قوله تعالى في قصة يوسف {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}، وكانت النتيجة {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}

2- لما سأل نوح ربه أن ينجي ابنه قال {قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين}، وكانت النتيجة {قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم}

قوله {أعوذ} لفظ "عاذ" وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة، وحقيقته: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا، والاستعاذة هي: الاستجارة، أي أستجير بالله دون غيره من سائر خلقه من الشيطان أن يضرني في ديني أو يصدني عن حق يلزمني لربي.

فالعياذ الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه، واللياذ بالشخص: هو اللجوء إليه لطلب المحبوب، قال الشاعر:

يا من ألوذ به فيما أؤمله                  ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره        ولا يهيضون عظما أنت جابره

وهذان البيتان يخاطب بهما رجلا، لكن كما قال بعضهم: هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله، ولهذا قال ابن القيم عن شيخ الإسلام: "ربما قلت هذين البيتين في السجود"

والاستعاذة لا تكون إلا بالله، كقوله -صلى الله عليه وسلم- (أعوذ بوجهك) و (أعوذ بكلمات الله التامات) و (أعوذ برضاك من سخطك)، فالاستعاذة لا تكون إلا بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف كأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أعوذ بكلمات الله التامات)، قالوا: فقد استعاذ بها ولا يستعاذ بمخلوق. [مجموع الفتاوى 1/336، 8/127، 15/227، وينظر: التمهيد 24/109، فتح الباري 13/381]

وقد تأتي الاستعاذة لا على وجه العبادة، فتصح إذا كانت بمن يقدر على أن يعيذك كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به) [خ 3630، م 2886]

قوله {الشيطان} اسم جنس يشمل الشيطان الأول الذي أمر بالسجود لآدم فلم يسجد، ويشمل ذريته، والشيطان من شطن، فالنون أصلية، فشيطان على وزن فيعال، وليست على وزن فعلان، ولهذا لا تمنع من الصرف، ومعنى شطن بعُد، وهو قد بعُد من الخير، وبعد عن عبادة ربه.

وهذا الوزن (فيعالا) نظير فعّال، وهو من صيغ المبالغة، مثل القيام والقوام، فالقيام فيعال، والقوام فعال. [منهاج السنة 5/189]

ولفظ الشيطان قد يراد به إبليس خاصة، كما في قصة آدم وإبليس كقوله تعالى {فأزلهما الشيطان عنها}، وقوله {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما}، وقد يراد بالشيطان كل شرير مفسد داع للغي والفساد من الجن والإنس، كما في قوله تعالى {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون}.

قوله {الرجيم} فعيل بمعنى فاعل ومفعول، فهو راجم لغيره بالمعاصي، وهو مرجوم بالقدح والاستعاذة واللعن، وقد تأتي فعيل بمعنى فاعل فقط، فالله رحيم بمعنى راحم، وقد تأتي بمعنى مفعول فقط فهو كسير بمعنى مكسور.

قوله {الرجيم} سماه الله رجيما حتى لا يقول الإنسان عن الشيطان إنه مكلف عصى وهو عرضة للتوبة، فحتى لا يحسن أحد الظن به سماه رجيما أي طريدا مبعدا من رحمة الله تعالى، والشيطان قد أقسم أن يأتي بني آدم ويغويهم كما قال {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} فذكر الجهات الأربعة مع أن الجهات ست، فلم يذكر الفوق والتحت وهذا لأنه يعلم أن من تمثل الفوقية الإلهية والتحتية العبودية لا يمكن أن يأتيه الشيطان، ومن العجيب أنك إذا نظرت إلى أسس الإلحاد رأيت أنها منتسبة إلى هذه الجهات الأربعة: تقدمية، رجعية، يمينية، يسارية.

والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم مهمة لأن التأثر بأي شيء يتوقف على المحل القابل والمحل الفاعل، والمحل الفاعل هنا موجود وهو القرآن، لكن المحل القابل يحتاج إلى تصفية فكانت التصفية بالاستعاذة، ومع ذلك تجد الناس مختلفين في التأثر بالقرآن مع أن المحل الفاعل واحد، وذلك لأنه وإن حصل شيء من التصفية بالاستعاذة، فهي لا تكون كاملة عند بعض الناس، وبذلك يختلف التأثر بالقرآن، ولهذا أنت في الشتاء تنفخ في يديك فتسخن، وتنفخ في الشاي فيبرد، فمع أن المحل الفاعل واحد لكن المحل القابل مختلف فاختلف الأثر.


بسم الله الرحمن الرحيم

** والبسملة يُبدأ بها كل عمل، وأنت إذا تعودت قول بسم الله عند بداية كل عمل استحيت أن تعصي الله بأي عمل، لأنك إذا أقدمت على عمل الشر فكيف تقول بسم الله.

** البسملة آية مستقلة يؤتى بها للفصل أو يؤتى بها لبدء السورة إلا في براءة، واختلف العلماء هل البسملة آية من الفاتحة أم لا؟ فقال بعضم: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهرا في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة، وقال بعضهم: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله؛ وهذا هو الصحيح، لما يأتي:

1- حديث أبي هريرة مرفوعا أن الله عز وجل قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، وقال مرة فوض إلي عبدي، فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) [م 395]، وهذا 

كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة.

2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صليت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر؛ فكانوا لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول قراءة، ولا في آخرها) [م 399]، والمراد لا يجهرون؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها.

3- من جهة السياق من حيث المعنى: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي الآية التي قال الله فيها (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)؛ لأن {الحمد لله رب العالمين} واحدة، {الرحمن الرحيم} الثانية، {مالك يوم الدين} الثالثة، وكلها حق لله عز وجل. {إياك نعبد وإياك نستعين} الرابعة، يعني الوسط، وهي قسمان: قسم منها حق لله، وقسم حق للعبد، {اهدنا الصراط المستقيم} للعبد، {صراط الذين أنعمت عليهم} للعبد، {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} للعبد.

فتكون ثلاث آيات لله عز وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد. وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربه. وهي الرابعة الوسطى.

4- من جهة السياق من حيث اللفظ، فإذا قلنا: إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين، ومن المعلوم أن تقارب الآية في الطول والقصر هو الأصل.

قوله {بسم} الجار والمجرور متعلق بمحذوف، لأن كل حرف جر لا بد أن يتعلق بشيء؛ كما قال ناظم قواعد الإعراب:

لا بد للجار من التعلق           بفعل أو معناه نحو مرتقي

واستثن كل زائد له عمل       كالبا ومن والكاف أيضا ولعل

والمتعلق هنا: فعل محذوف متأخر مناسب للمقام، أما تقديره فعلا فلأنه الأصل، وتقديره محذوفا لفائدتين: 

1- التيمن بالاقتصار على اسم الله.

2- كثرة الاستعمال.

وتقديره متأخرا لفائدتين: 

1- التيمن بالبداءة بالبسملة.

2- الحصر.

وتقديره مناسبا لمقام؛ لأنه أدل على المقصود، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: (من لم يذبح فليذبح بسم الله)، فذكر الفعل المراد بعينه.

قوله {بسم الله} (اسم) هنا مفرد مضاف فيعم كل أسماء الله تعالى، فيكون شاملا لكل الأسماء الحسنى، وهذا مثل قوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، وقوله {وأما بنعمة ربك فحدث}، وقوله {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي}، وقوله {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}

قوله {الله} اسم من أسماء الله تعالى، بل قال بعضهم إنه الاسم الأعظم، لأنه أكثر الأسماء ترددا في القرآن والسنة، ولأنه الاسم الذي يأتي متبوعا لا تابعا، فيقال: الله الملك، الله الخالق، ولا يقال: الخالق الله، وكذلك يقال: الرحمن والرحيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن. [المهذب من مدارج السالكين ص32]

واختلف العلماء هل هذا الاسم مشتق أم لا؟ فذهب سيبويه إلى أنه مشتق من (الإله)، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، كما حذفت الهمزة من (الناس) ومن (شر) ومن (خير)، وأصلها الأناس، وأشر، وأخير، وذهب ابن العربي والرازي إلى أنه ليس مشتقا، وقال شيخنا: في كون أصلها الإله نظر لأنه يخبر فيقال هو الله الإله، فكيف يكونان مثل بعض.

وقال ابن القيم: "ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى" [بدائع الفوائد 2/249]

ومعنى الاسم: الذي تألهه القلوب، أي تحن له، وتشتاق للقائه، وتعظمه وتعبده.

قوله {الرحمن الرحيم} ناسب هذان الاسمان البسملة دون غيرهما؛ لأن مقصود البسملة الاستعانة، وأنسب ما يكون للاستعانة الرحمة.

واختلف العلماء في الفرق بينهما على أقوال: 

القول الأول: أن (الرحمن) يعني ذو الرحمن العامة لجميع المخلوقين، و (الرحيم) ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، واعترض بأن الله تعالى جعل اسمه الرحيم على سبيل العموم في غيرما آية، ولم يجعله خاصا بالمؤمنين، فقال تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} وقال تعالى {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم} وقال تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم} 

القول الثاني: أن (الرحمن) تعني قيام صفة الرحمة بالله، و(الرحيم) تعني وصولها إلى المرحوم، لهذا لم يأت في القرآن (بهم رحمن)

القول الثالث: أن (الرحمن) على وزن فعلان، وهي صيغة مبالغة، مثل غضبان وندمان وعطشان، تدل على السعة والامتلاء، والتناهي في تحقق الصفة، و (الرحيم) على وزن فعيل، وهي تدل على التكرار، وأن هذه الصفة دائمة، فالرحمن أدل على المبالغة في تحقق الصفة، والتناهي في عظمها، والرحيم أدل على المبالغة في تكرارها ودوامها، وهذا قريب من القول الثاني.

قوله {الرحمن الرحيم} هنا ينبغي أن نتأمل سرا من أسرار تكرار هذا الاسم (الرحمن الرحيم)، فإن الإنسان إذا أراد أن يقرأ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يدخل قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يخرج قال: بسم الله، وإذا أراد أن يأكل قال: بسم الله، ولم يقل أحد من الناس قط: بسم الله المنتقم الجبار، أو بسم الله العزيز الحكيم، مع أن هذا حق، وإنما قيل "بسم الله الرحمن الرحيم".

وفي هذا إشارة إلى قوله عز وجل في الحديث القدسي عند البخاري وغيره (إن رحمتي سبقت غضبي)، وفي الصحيح (إن الله تعالى جعل مائة رحمة، فأنـزل منها رحمة واحدة في الدنيا، وبها يتراحم الناس، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين رحمة إلى يوم الحساب)، ففي ذلك إشارة إلى عظيم رحمته جل وعلا وأنها تسبق غضبه.

قوله {الرحمن الرحيم} مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه، هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق بلا حول ولا قوة، ويجد فيه كل ما يحتاجه إليه نموه ميسرا، رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل. ولذلك جاء في الحديث القدسي عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- مرفوعا: (قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته) 


الحمد لله رب العالمين

قوله {الحمد} الحمد هو وصف المحمود بالكمال والثناء عليه مع المحبة والعظيم.

والحمد لله يكون على كماله، وعلى إنعامه، فالحمد على كماله كما في قوله {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}، والحمد لله على إنعامه كما في قوله {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين}

واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر، والصحيح أنهما ليسا بمعنى واحد، بل بينهما فروق:

1- أن الحمد يختص باللسان، بخلاف الشكر، فهو باللسان والقلب والجوارح.

2- أن الحمد يكون في مقابل نعمة، ويكون بدونها، بخلاف الشكر لا يكون إلا في مقابل نعمة.

والفرق بين الحمد والمدح أن المدح هو الإخبار عن محاسن الغير مجردا عن الحب والإرادة والتعظيم، والحمد يكون مقرونا بالحب والإرادة والتعظيم.

قوله {الحمد} (أل) هنا للاستغراق، فكل الحمد لله، ولم يذكر لحمده هنا ظرفا مكانيا ولا زمانيا، وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية السماوات والأرض في قوله {وله الحمد في السماوات والأرض}، وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية الدنيا والآخرة في قوله {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة} وقال في أول سورة سبأ {وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير}، وإنما لم يذكر ظرفا هنا ليكون الأمر عاما، لأن الفاتحة هي أم الكتاب.

وهذا الاستغراق ضروري، لأنه لا يمكن لأحد أن يبلغ حمد الله على وجه الكمال، كما قال الشاعر:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة                   علي له في مثلها يجب الشكـر 

        فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله           وإن طالت الأيام واتصل العمر

قوله {الحمد لله} افتتح الله تعالى كتابه بالحمد، كما في هذه السورة، وافتتح خلقه بالحمد، كما قال تعالى {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور}، واختتم كل شيء بالحمد، كما قال تعالى {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}، ولهذا قال تعالى {وهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة}

قوله {الحمد لله} علمنا الله تعالى حمدة بهاتين الكلمتين اليسيرتين، لأمرين مهمين: 

الأول: أنه لا يمكن للبشر مهما بلغوا من الفصاحة والبلاغة أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله تعالى، ولهذا جاء في الحديث (سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، فعلمنا الله تعالى كيف نحمده بأسهل الصيغ.

الثاني: أن الله تعالى جعل حمده في هاتين الكلمتين اليسيرتين حتى يتساوى في حمد الله كل من أراد أن يحمده، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير، فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله، وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع أن يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. 

ولكن الله تعالى شاء بعدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له فعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم أن نقول {الحمد لله}.

قوله {الحمد لله} ولم يقل (احمدوا الله)، ولم يقل (حمد الأنبياء الله)، بل جاء بها بالجملة الاسمية لتدل على الثبوت والاستمرار، فكأن الحمد ثابت لله قبل أن يوجد من يحمده، فالله تعالى لم يستفد بحمد الحامدين كمال، كما لم يحصل له بكفر الكافرين نقص.

ومن أمثلة الإتيان بالجملة الاسمية لتدل على الثبوت والاستمرار قوله تعالى {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا}

ومنه قوله تعالى عن الملائكة {قالوا سلاما قال سلام}، فقول إبراهيم: {سلام} أكمل من سلام الملائكة؛ لأنه جملة اسمية، و(سلاما) جملة فعلية.

ومنه قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا}، ولم يقل (ولا يجزي مولود عن والده) بل جاء بالجملة الاسمية، وذلك أن الإنسان يدخر ولده لنفعه، ودفع الأذى عنه، فأراد الله حسم ذلك الأمر، ودفع توهم أن الولد قد يغني شيئا عن والده، فجاء بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والاستقرار.

قوله {الحمد لله} انظر إلى نعم الله على الإنسان، من إيجاد، وإمداد، وإعداد، وانظر إلى نعمة البصر، والسمع، ونعمة الزرع والماء، كما قال تعالى {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون}

قوله {الحمد لله} هذا الحمد لا بد أن يكون باللسان، نابعا من القلب، ولهذا قال العلماء إن الحمد وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، والمحبة والتعظيم عمل القلب.

ولم يذكر الله تعالى على ماذا يُحمد، ليفيد أنه يحمد على كل شيء، حتى وإن كان مما يكرهه الإنسان، كما جاء في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعا: (عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط)

والله تعالى لا يقدر شرا محضا، فإن كان الشر في شيء، فهو في مفعولاته، لا في فعله، ففعله متضمن لحكم عظيمة قد لا تظهر لبني آدم.

ولهذا قد يقدر الله ما هو مكروه للإنسان لمصلحة أعظم، كما قال تعالى {فأثابكم غما بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم}، وقال تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}

ولهذا لا يُنسب الشر إلى الله نسبة مباشرة، كما قال تعالى عن الجن {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}، وقال تعالى عن الخليل إبراهيم {الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين}، فنسب المرض لنفسه، مع أن الكل من عند الله.

واعلم أن أحوال الناس في حمد الله على قدره مختلفة، وهم على أربع مراتب: 

الأولى: التسخط، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة، والتسخط قد يكون بالقلب، كأن يكون في قلبه شيء على ربه عز وجل من السُّخط والكره والعياذ بالله، أو يشعر بأن الله قد ظلمه بهذه المصيبة. 

وقد يكون باللسان كأن يدعو بالويل والثبور، أو أن يسب الدهر وما أشبهه. 

وقد يكون بالجوارح مثل: أن يلطم خده، أو يصفع رأسه، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، وما أشبهه ذلك. 

وهؤلاء جمعوا بين مصيبتين: مصيبة في الدين بالسخط، ومصيبة في الدنيا لما أتاهم ممَّا يؤلمهم.

الثانية: الصبر، وهي أن يحبس نفسه عن الجزع والتسخط، فهو يكره المصيبة ولا يحبها، لكن يصبّر نفسه، ولا يتحدث باللسان بما يسخط الله، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله تعالى، ولا يكون في قلبه على الله شيءٌ أبداً؛ صابر لكنه كاره لها.

الثالثة: الرضى، وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاع، والصبر متفق على وجوبه، ومعناه أن يكون الإنسان منشرحاً صدره بهذه المصيبة وأن يرى أن المصيبة وعدمها سواء.

الرابعة: الشكر، وهو أعلى مقام، فيشكر الله على هذه المصيبة، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى ما يكره قال: (الحمد لله على كل حال)

وفي السياق يقول ابن القيم: "فأكثر الخلق، بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتبا على القدر وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك .

فان تنج منها تنج من ذي عظيمة       وإلا فإني لا إخالك ناجيا

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى."

قوله {لله} اللام هنا للاستحقاق، فالله وحده هو المستحق للحمد، وهي أيضا للاختصاص، فالذي يختص بالحمد المطلق الكامل هو الله.

قوله {لله رب العالمين} بدأ الله تعالى بذكر الألوهية ثم الربوبية، مع أن المعروف أن مقتضى الربوبية التربية والرأفة غالبا، ومقتضى الألوهية التكليف، والتكليف فيه مشقة، ولهذا قال تعالى {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه} ولم يقل دعا إلهه، فلماذا قدم الألوهية على الربوبية؟ 

قدمها لأن التكليف نعمة كبرى على الإنسان مع أن ظاهره التقييد، لكن لو تأمل الإنسان في التكليف لعلم أنه نعمة عظيمة، إذ لو لم يكن هناك تكليف لأكل القوي الضعيف، ولذهب الفقير تحت الغني، لكن بالتكليف يحصل التوازن بين الناس، فالتكليف بالنسبة للنفس فيه مشقة، لكن لو تأمل الإنسان فيه لعلم أن تكليف غيره يحميه من تسلط غيره عليه، وتكليفه هو يحميه من ظلمه لغيره، ولهذا بدأ بالألوهية ثم الربوبية.

قوله {لله رب} في هذين الاسمين دليل على توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية. [راجع ملف العقيدة للمزيد حول أنواع التوحيد]

قوله {رب العالمين} أضاف العالمين إلى اسم (الرب)، فهو رب المؤمن، ورب الكافر، وهو يعطيهم بعطاء الربوبية؛ لأن الدنيا دار اختبار وليست دار جزاء، كما قال تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} الآيات، وأبلغ من ذلك قوله تعالى {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها من نشاء لمن نريد}، وقد جاء في الحديث: (من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه، جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة). 

وإذا كانت الدنيا يعطيها الله للمؤمن والكافر، وليست دار جزاء، علم أن شأنها حقير، والأمر كما جاء في حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- مرفوعا: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها) [خ 2892]

وإذا كان الله يعطي في الدنيا بعطاء الربوبية، فليطمئن الإنسان على أكله وشرابه ومعاشه، فقد ضمنه الله له بتقديره، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وإذا كان أمر الدنيا مضمونا، فلم يبق على المكلف إلا أن يقبل على أمر الآخرة.

قوله {العالمين} هذه اللفظة تأتي في القرآن كثيرا، ويحددها السياق، وقد يراد بها أحد هذه المعاني:

1- ما سوى الله، كما في قوله {الحمد لله رب العالمين}، وقوله {وإنه لتنزيل رب العالمين}، وقوله {وما الله يريد ظلما للعالمين}

2- عالم ذلك الزمان، كما في قوله {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}، وقوله {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين}، وقوله {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} على أحد قولي العلماء.

3- عالم البشر، كما في قوله {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}، وقوله {أتأتون الذكران من العالمين}

4- الإنس والجن، كما في قوله {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}

من فوائد الآية: 

1- كمال صفات الله، وقد أخذنا ذلك من كلمة {الحمد}، فالحمد يكون على الكمال وعلى الإنعام كما سبق.

2- إثبات الألوهية لله عز وجل.

3- إثبات الربوبية.

4- دليل على أن الرسل والملائكة والأولياء، ليس لهم تدبير لهذا الكون، ولا يملكون شيئا من قوله {رب العالمين} فكل العالمين ربهم الله، لا رب لهم سواه.

5- ربوبية الله الشاملة من قوله {رب العالمين}


الرحمن الرحيم

قوله {الرحمن الرحيم} الفرق بينهما أن الرحمن تعني قيام صفة الرحمة بالله، والرحيم تعني وصولها إلى المرحوم.

وقال بعض العلماء إن الرحمن ذو الرحمة العامة، والرحيم ذو الرحمة الخاصة، بدليل قوله تعالى {وكان بالمؤمنين رحيما}، وهذا غير وجيه لسببين:

الأول: أن الله تعالى جعل اسمه الرحيم على سبيل العموم في غير ما آية، ولم يجعله خاصا بالمؤمنين، فقال تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} وقال تعالى {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم} وقال تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم} 

الثاني: أن الله لم يعدِّ اسمه الرحمن للناس ولا للمؤمنين، فلم يقال: وكان بهم رحمانا، أو نحو ذلك، بل جعل الرحمن اسما لقيام الصفة به، والرحيم اسما للفعل.

وأتبع قوله {الحمد لله رب العالمين} بقوله {الرحمن الرحيم} مع أن البسملة فيها (الرحمن الرحيم) حتى لا يشعر الإنسان في قوله {رب العالمين} أن هناك قسوة، لأن معنى الربوبية هي التربية، ومن المعلوم أن المربي قد يقسوا أحيانا، كما قال الشاعر:

        قسا ليزدجروا ومن يك حازما      فليقس أحيانا على من يرحم 

فحتى لا يتوهم الإنسان القسوة في قوله تعالى {رب العالمين} أتبعها بقوله {الرحمن الرحيم}، وحتى لا يحصل الاغترار بالرحمة أتبع ذلك بالترهيب بقوله تعالى {مالك يوم الدين}، فجمع بين الترهيب ثم الترغيب ثم الترهيب.

قوله {الرحمن الرحيم} فيه إثبات هذين الاسمين لله تعالى، وهذا هو النوع الثالث من أنواع التوحيد، فقد أثبت الله في هذه السورة توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.

وإنما يكثر الله تعالى من ذكر أسمائه وصفاته في القرآن الكريم، ليعرّف الخلق به، فإذا عرفوه أحبوه.

ومعرفة أسماء الله وصفاته من أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، ولا تكمل محبه الله وخشيته إلا بمعرفة أسمائه وصفاته.

وقبيح بالعبد أن تنزل عليه نعم الله تترى، وهو جاهل بهذا المنعم، ولهذا ضرب العلماء لذلك مثلا برجل، انقطعت به السبل في صحراء شاسعة، ليس بها أنيس ولا حياة، وقد بلغ به الجهد حتى نام، فلما استيقظ وجد مائدة عليها أطايب الطعام أو الشراب.

فهذا الرجل قبل أن تمتد يده إلى الطعام، سيفكر في هذا الطعام، من أتى به؟ ومن أعده على هذه الصورة؟ وكيف أشكره، كيف أعرفه؟

كذلك الإنسان، طرأ على كون معد لاستقباله، وعلى وجود لا تتناوله قدرته، ولا سلطان له عليه، فهو لا يتناول الشمس مثلا ليوقدها، ولم يدّع هذه الآيات الكونية أحد، ألا يدل ذلك على الخالق عز وجل، الذي يجب على الإنسان أن يتعرف عليه، وعلى منهجه، وماذا يريد من الإنسان.

قوله {الرحمن الرحيم} في توحيد الأسماء والصفات وضع العلماء عدة قواعد، منها: 

أولا: أن مذهب السلف أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- مع إثبات كمال الضد، وما لم يرد إثباته ولا نفيه نتوقف في لفظه ونستفصل في معناه، إلا لو كان صفة نقص فإننا ننفيه عن الله لأنه لا احتمال هنا، ولا مجال للاستفصال.

ثانيا: العقل لا مدخل له في تفاصيل باب الأسماء والصفات، وإدخاله باطل لوجوه: منها أنه خلاف مذهب السلف، ومنها أنه خلاف العقل الصريح؛ لأن العقل الصريح مقتضاه أن يتوقف فيما لا يدركه، ولا يعرفه، ويرجع فيه إلى النقل والخبر الصحيح، وأيضا فإن الرجوع إلى العقل مستلزم للتناقض والاضطراب، فما يثبته عقل واحد، قد ينفيه الآخر، والعكس.

ثالثا: أسس الأسماء والصفات ثلاثة: 

1- الإيمان بما وصف به نفسه جل وعلا أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

2- تنزيه الله تعالى عن المماثلة.

3- قطع الطمع عن إدراك كيفية صفات الله عز وجل.

رابعا: أن أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) 

وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن أحدا حصره ولا الإحاطة به، وفي حديث الشفاعة: (فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن، يلهمنيه الله) [م 193]

أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة)، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما، من أحصاها دخل الجنة، أو نحو ذلك.

بل معنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة. وعلى هذا فيكون قوله: (من أحصاها دخل الجنة) جملة مكملة لما قبلها وليست مستقلة. 

ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة.

ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي في تعيينها ضعيف، وفيه ما ليس من أسماء الله كالمغني والمانع والضار والنافع والبديع والرشيد والباقي والمحصي.

من فوائد الآية: 

1- إثبات سعة رحمة الله، لأن الرحمن، على وزن فعلان، وهو يدل على السعة والامتلاء، يقال: فلان غضبان، أي مملوء غضبا.

2- إثبات وصول الرحمة إلى بني آدم، من اسم الله الرحيم.


مالك يوم الدين

قوله {مالك} فيها قراءتان، أما {ملك} وقرأ بها الجمهور، و {مالك} وقرأ بها عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، وكلاهما مشتق من مَلَكَ، وأصل مادة مَلَكَ في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط.

أما (مَلِك) صفة مشبهة، صارت اسما لصاحب الـمُلك.

وأما (مالِك) اسم فاعل من مَلَكَ إذا اتصف بالمِلك.

والـمُلكُ أخص من المِلك؛ لأن الـمُلك فيه معنى التصرف والتدبير، وسياسة الرعية، لهذا يقال (ملك الناس) ولا يقال (ملك الدواب أو الدراهم)

والمِلك فيه معنى الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره. 

فمالك تعنى أن هذا الشيء مِلكه، وهو له، لكن لا يلزم أن يباشر تدبيره بنفسه، لهذا قد يكون المالك غير ملِك على ملكه، كما لو عين نائبنا عنه.

والله تعالى أعطى بعض عباده ملكا للأشياء في الدنيا يتصرفون فيه، كما قال تعالى {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}، وقال تعالى {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك}

لكن في يوم القيامة يعود الـمُلك والمِلك كله لله، كما قال تعالى {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار}.

قوله {يوم} هل هو يوم واحد؟ وما مقدار ذلك اليوم؟ فيه خلاف بين العلماء:

القول الأول: أن آية المعارج تتحدث عن يوم القيامة وهوله، وما يكون فيه من أحداث عظام، وأن من أهواله طول ذلك اليوم بما يعادل خمسين ألف سنة من سني الدنيا، كما قال تعالى {سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج * تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة * فاصبر صبرا جميلا * إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا * يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن * ولا يسأل حميم حميما}، وقوله {في يوم}ليس متعلقا بقوله {تعرج الملائكة والروح إليه}، لكنه متعلق بما قبل ذلك، وعلى هذا فيكون قوله {ليس له دافع * من الله ذي المعارج * تعرج الملائكة والروح إليه} جملة معترضة .

ويدل عليه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) [م 987]

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "هذا يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة" [تفسير الطبري 23/602]

أما آيتا الحج والسجدة، وهما قوله تعالى {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}، وقوله {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون * يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم}، فالحديث فيهما عن أيام الله التي يكون فيها خلقه وتدبيره، وهذا اختيار بن حزم، والعلامة محمد رشيد رضا، والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله.

القول الثاني: أن يوم الألف في سورة الحج، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، ويوم الألف في سورة السجدة، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى، ويوم الخمسين ألفا، هو يوم القيامة.

القول الثالث: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن، وحال الكافر؛ لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر، كما قال تعالى {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير}، وقال تعالى {الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا}، وقال تعالى {يقول الكافرون هذا يوم عسر}.

ولهذا ذكر الله تعالى في سورة الفرقان {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا}، وهي تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار؛ لأن المقيل القيلولة أو مكانها وهي الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية، على ذلك، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره، وأما على قول من فسر (المقيل) في الآية بأنه المأوى والمنزل كقتادة، فلا دلالة في آية سورة الفرقان.

واستدل أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام) [حم 7866، ت 2354، جه 4122، وصححه الألباني].

وعن أبي هريرة موقوفا: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء، بمقدار نصف يوم، فقال أحدهم: وما مقدار نصف يوم؟ قال أبو هريرة: أو ما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}"، والشاهد أنه جعل الألف سنة في يوم القيامة.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يوما كان مقداره خمسين ألف سنة، ما أطول هذا اليوم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا) [حم 11320، وفيه ابن لهيعة، وضعفه الألباني والأرنؤوط]

ويدل لذلك أيضا أن المؤمن لا يناقش الحساب، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: (من نوقش الحساب عذب، قالت: أليس يقول الله تعالى {فسوف يحاسب حسابا يسيرا}، قال: ذلك العرض) [خ 6536، م 2876]

[ينظر: تفسير القرطبي 14/89، تفسير الطبري 16/597، تفسير القرآن العظيم 8/221-224، الفصل في الملل 3/77، تفسير المنار 8/396، فتاوى نور على الدرب: علوم القرآن والتفسير/سورة السجدة، أضواء البيان 5/277-280]

قوله {يوم} جاء بعض المهتمين بقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وقال إن قوله تعالى {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقدراه ألف سنة مما تعدون} يشير إلى أقصى سرعة في الكون، وهي سرعة الضوء، وقرروا ذلك بأن الضمير في قوله {مقداره} يعود على الأمر لا على اليوم! يعني أن الأمر يذهب من السماء إلى الأرض ثم يعود في يوم، وهذا الذهاب والإياب يقع في يوم، لكنه إذا قدر بأيامنا فإنه سيقع في ألف سنة مما نعد! ووضعوا القاعدة الآتية:

مسيرة الأمر الإلهي في اليوم = ألف سنة من أيامنا.

والعرب كانت تعبر عن الزمن بالمسافة، فيقولوا: سرنا مسيرة يوم وليلة، وعلى هذا فتكون المعادلة:

مسيرة الأمر في اليوم = مسيرة ألف سنة من أيامنا.

وإذا كانت الأيام تحسب بالأشهر القمرية، فيمكن أن نقول:

مسيرة الأمر في اليوم = مسيرة القمر ألف سنة من أيامنا.

مسيرة الأمر في اليوم = 25,831,348,080 كم، وهي المسافة التي يقطعها القمر في 1000 عام.

المسافة= السرعة*الزمن

السرعة*الزمن = 25,831,348,080 كم، والزمن هو 24 ساعة، ويحول بالثواني 86400، لكن هذه الثواني غير دقيقة فقالوا نقيسه باليوم الأرضي والذي عدد ثواني اليوم فيه 86164 !!

السرعة * 86164 = 25,831,348,080 كم

السرعة = 25,831,348,080 / 86164= 299792.81 كم/ث

وهي سرعة الضوء، حيث إن سرعة الضوء في الفراغ = 299792 كم/ث. 

وقد التفسير والاستنباط غير صحيح لأمور:

أولا: أن ذلك يفرض قوانين الأرض في حق العالم العلوي، فإذا ثبت لدينا أن أقصى سرعة هي سرعة الضوء، فلا يلزم أن يكون ذلك في حق الله تعالى، أو في حق ملائكته.

ثانيا: أنهم جعلوا قوله {كان مقداره} عائدا إلى الأمر، ليكون المعنى أن هذا الأمر والتدبير يقع في ألف سنة مما تعدون، ليصلح لهم أن يقيسوا سرعة التدبير بسرعة الضوء، وإلا فلو عاد قوله {مقداره} على اليوم لما استقام ذلك، وفي ذلك مصادرة لمعنى الآية، وماذا نفعل في قوله {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}، فليس فيها أمر ولا مأمور ولا تقدير.

ثالثا: أنهم جعلوا قوله {كان مقداره} يعني حده، ليصلوا إلى أن مراد الآية بيان أقصى سرعة يمكن أن يستغرقها الأمر، وهي سرعة الضوء، وهذا أيضا خلاف ظاهر الآية.

رابعا: أن مقتضى هذا التفسير أن زمن اليوم عند الله هو نفسه زمن اليوم عندنا، ولهذا في المعادلة قبل الأخيرة قاموا بضرب السرعة في الزمن، وجعلوا الزمن هو 24 ساعة، لكن لأن أمر الله يصل سريعا بسرعة الضوء، فهو يستغرق ألف سنة في حسابنا، وهذا خلاف ظاهر الآية، وخلاف قوله تعالى {ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}، وأيضا فإن اليوم قد يطلق الفترة من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، فهي أقل من 24 ساعة، كما قال تعالى {سخرها عليهم سبع ليلا وثمانية أيام}

خامسا: أن الزعم بأن أقصى سرعة عرفها البشر هي سرعة الضوء فيه نظر، فقد ظهرت أبحاث تشير إلى إمكانية أن يكون شيء أسرع من سرعة الضوء.

سادسا: أن مقتضى هذا الزعم أنه يمكن قياس المسافة بين السماء والأرض، لأنه إذا كان الأمر يقع من السماء إلى الأرض في يوم، ويسير بسرعة الضوء، فإن الضوء يقطع 25,831,347,000 كم في اليوم الواحد، فهذا معناه أن المسافة بين السماء والأرض هي الرقم السابق! ومن المعلوم أن أبعد مجرة في حدود 13 مليار سنة ضوئية، وهذه المجرة تحت السماء الدنيا بلا شك، فالمسافة التي يقطعها الضوء في يوم لا تكفي للوصول لأبعد مجرة! لهذا تنصل بعضهم من هذا التفسير وقال في الآية إشارة فقط إلى أن هناك سرعة أسرع من الضوء!!

سابعا: أن حادثة الاسراء والمعراج للنبي -صلى الله عليه وسلم- حصلت في جزء من الليل، حيث أسرى به -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس وعرج به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء السابعة، وعاد إلى مكة المكرمة خلال جزء من الليل، وهذا يتخطى سرعة الضوء بشكل ضخم، فكيف يقاس بعد ذلك أمر الله تعالى بأنه يسير بسرعة الضوء، وكيف يُدعي بأن أقصى سرعة هي الضوء.

ثامنا: يجب أن يُعلم أن الله تعالى حين أمر الناس بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، في مثل قوله تعالى {أفلم ينظروا إلى السماء}، وقوله {فلينظر الإنسان مم خلق}، وقوله {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}، وقوله {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض}، فإن هذه الآيات وغيرها تدل على أن القرآن يدعو إلى العلم، ولا يلزم من ذلك اشتماله على كل تلك العلوم، بدليل أن الله تعالى أحال على أهل العلم في كل فن، فقال {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}

أما قوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فإن هذا في اللوح المحفوظ عن جمهور المفسرين، ولهذا قال تعالى في أول الآية {وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}، لهذا يجب عن تفسير القرآن الكريم ببعض الاكتشافات العلمية الحديثة مراعاة ما يأتي:

1- أن يكون هذا الاكتشاف من قبيل الحقائق القطعية، وليس النظريات، لأن النظرية قد تبطل، ثم يقال بعدها إن القرآن الكريم كان قد دل على باطل.

2- ألا يجزم بأن هذا هو التفسير للآية، بل يجعل ذلك من ضمن دلالات الآية الواسعة؛ لأن السلف كانوا أعلم منا بكتاب الله تعالى، وخاطبهم الله تعالى بما يفهمون، ولم يفسروا الآيات بمثل ما قاله بعض المعاصرين.

قوله {الدين} مادة الدال والياء والنون ترجع لأصل واحد وهو الانقياد، والذل، وتأتي هذه الكلمة بمعنى العمل، والعمل ينقاد له صاحبه ويذل، كما قال تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة}، وقال تعالى {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}، كما تأتي بمعنى الجزاء على العمل، وهو ظاهر الانقياد والذل.

فمن إتيانها بمعنى العمل قوله تعالى {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق}، وقوله {إن الدين عند الله الإسلام}، وقوله {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}، وقوله {ورضيت لكم الإسلام دينا}، وقوله {لكم دينكم ولي دين}.

ومن إتيانها بمعنى الجزاء على العمل هذه الآية، وقوله {وإن الدين لواقع}، وقوله {وما أدراك ما يوم الدين}.

أما قوله تعالى{كلا بل تكذبون بالدين} فالدين هنا بمعنى الجزاء، أي أنهم يكذبون بهذا اليوم، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، ويحتمل أيضا أن المعنى أنهم يكذبون بالدين نفسه، فلا يقرون بالدين الذي جاءت به الرسل، والقاعدة أن النص إذا احتمل معنيين، لا ينافي أحدهما الآخر، ولا مرجح بينهما، فإنه يحمل عليهما.

وقد جاءت كلمة (الدين) في قوله {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} يعني ملكه وحكمه، وهو جار على الأصل اللغوي؛ لأن الملك والحكم ينقاد له الناس.

قوله {مالك يوم الدين} الله تعالى مالك يوم الدين ومالك للدنيا والآخرة، وإنما خص الملك بذلك اليوم لأن ملكه تعالى في ذلك اليوم ملك ظاهر وانفرادي، أما في الدنيا فهناك من يملك بتمليك الله له، كما قال تعالى {الملك يومئذ الحق للرحمن}.

وتأمل تذييل الآية ب(الرحمن) ليبين أن قهره وجبروته في هذا اليوم مقرون بالرحمة، وهذا مثل ما جاء في الفاتحة لما قال {الرحمن الرحيم مالك يوم الدين}، فالآية تجمع للعبد بين الخوف والرجاء.

وقد ثبت عن مكحول -رحمه الله- أنه قال: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجيء، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو خارجي، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو سني متبع"

وسورة الفاتحة اشتملت على المعاني الثلاثة، فالرجاء في قوله {الرحمن الرحيم}، والخوف في قوله {مالك يوم الدين}، والحب في قوله {إياك نعبد وإياك نستعين}؛ لأن مبنى العبادة على الحب والذل كما سيأتي.

وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة أيضا في قوله تعالى {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه}، فابتغاء الوسيلة هو الحب، ثم ذكر الرجاء والخوف.

وقد اختلف العلماء في الخوف والرجاء، أيهما يغلب العبد، جانب الخوف  أم الرجاء على أقوال:

القول الأول: أنه ينبغي أن يغلب جانب الخوف؛ ليحمله ذلك على فعل الطاعة وترك المعصية.

القول الثاني: أنه يغلب جانب الرجاء؛ ليكون متفائلا، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه الفأل.

القول الثالث: أنه في فعل الطاعة يغلب الرجاء؛ لينبعث إلى العمل، فالذي منّ عليه بالطاعة سيمُنّ عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء فانتظر الإجابة؛ لأنه يقول {ادعوني أستجب لكم}، وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف؛ لأجل أن يمنعه ذلك من فعل المعصية، كما قال تعالى {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}

وهذا القول قريب، لكن قد يعترض عليه بقوله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}

القول الرابع: أنه يغلب جانب الخوف في الصحة، وجانب الرجاء في المرض.

القول الخامس: أنهما كجناحي الطائر، فالمؤمن يسير إلى الله بجناحين هما الرجاء والخوف، فإذا استويا تم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.

القول السادس: أنه يختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال. [الآداب الشرعية 2/30-32، القول المفيد 1/51، 2/164]

قوله {مالك يوم الدين} ملك الله تعالى ليوم الدين مؤذن بإقامة العدل، وعدم الهوادة فيه؛ لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم. 

فلو قال (رب يوم الدين) لكان فيه مطمع للمفسدين، يجدون من شأن الرب رحمة وصفحا، وأما (مالك) ففيها إشعار بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها.

قوله {يوم الدين} هذا اليوم يعطي التوازن في الكون كله؛ لأنه لو لم يوجد يوم للحساب، لنجا الذي ملأ الدنيا شرورا دون أن يجازى على ما فعل، ولكان الذي التزم بالتكليف والعبادة وحرم نفسه من متع دنيوية كثيرة إرضاء لله قد شقي في الحياة الدنيا.

ولهذا قال تعالى {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}، وقال تعالى {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}، وقال تعالى {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل والحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات}، وقال تعالى {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون}

من فوائد الآية:

1- فيها دليل على أن الملك في ذلك اليوم لله وحده كما قال تعالى {لمن الملك اليوم لله الواحد  القهار} 

2- تمام ملك الله عز وجل فإن ملكه سبحانه وتعالى تام، وأخذ ذلك من القراءة الثانية للآية {ملك يوم الدين} 

3- إثبات ليوم القيامة، وهو أحد أركان الإيمان الستة {يوم الدين}.

4- إثبات الحساب، وأن الإنسان يحاسب على عمله يوم القيامة: {الدين}، أي: الجزاء.

5- في الآية ترغيب وترهيب، ترغيب في العمل الصالح: لأن الإنسان إذا اعتقد أنه سيحاسب سيجتهد في الأعمال الصالحة، وإذا اعتقد أنه سيحاسب أيضاً سيتجنب الأعمال السيئة.

6- دليل على كمال حكمة الله، فمن كمال حكمته أن جعل للخلق مآلا وحسابا، ولم يتركهم عبثا وهملا.


إياك نعبد وإياك نستعين

قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} هذه أولى الآيات التي بين الله وبين العبد، فقوله {إياك نعبد} للعبد، وقوله {إياك نستعين} لله.

قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي متضمنة لأصلين عظيمين: العبادة والتوكل، وهذا الأصلان هما عماد الدين، ولهذا قال بعض السلف: "إن الله سبحانه أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في الأربعة، وجميع معاني الأربعة في القرآن، وجميع معاني القرآن في المفصل، وجميع معاني المفصل في أم القرآن، وجمع معاني أم القرآن في قوله {إياك نعبد وإياك نستعين}" [بيان تلبيس الجهمية 4/532]

وقد ذكرت العبادة والتوكل في القرآن في عدة مواضع:

1- {إياك نعبد وإياك نستعين}

2- قول شعيب {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} [هود: 88].

3- قوله تعالى {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123].

4- قوله تعالى حكاية عن المؤمنين {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} [الممتحنة: 4].

5- قوله تعالى {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} [المزمل 8]

6- قوله تعالى {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} [الرعد: 30]

7- قوله تعالى {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا}

قوله {إياك} الأصل: نعبدك، بتأخير كاف الخطاب، تقول: نعبدك ونستعينك ونستهديك ونستغفرك، فقدم المفعول وهو (الكاف)، ولما انفصلت الكاف جيء لها (بإي) لتقوم عليها (إياك)، وهذا التقديم يفيد الحصر.

لكن الحصر في قوله {إياك نعبد} حصر عام حقيقي، والحصر في قوله {وإياك نستعين} حصر إضافي، والفرق بينهما، أن العبادة لا تكون إلا لله تعالى على وجه الحصر، أما الاستعانة فهي على أقسام كما سيأتي، فقد تكون لغير الله.

ومثال الحصر الإضافي قوله تعالى{والكافرون هم الظالمون}، فإن غيرهم ظالمين أيضا، وقوله تعالى {إنما أنت منذر}، لأن له -صلى الله عليه وسلم- صفات أخرى، ومثل قوله -صلى الله عليه وسلم- (الحج عرفة)

قوله {إياك} في هذه الآية التفات، وهو تحول الكلام من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب بكاف الخطاب بقوله {إياك}، وذلك مناسب لأن العبد لما حمد الله وأثنى عليه ومجده، وتبرأ من عبادة غيره، ومن الاستعانة بسواه، فكأنه اقترب من الله عز وجل وأصبح بين يديه تعالى، فناسب أن يخاطبه بكاف الخطاب بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين}.

قوله {إياك نعبد} إن قيل كان القياس أن الفرد يقول إياك أعبد فلماذا يقول {إياك نعبد}؟ 

والجواب: أن العباد متفاوتون في العبودية من حيث القبول أو الرد أو جزء القبول، فإذا دعا بصيغة الإفراد احتمل أن لا يقبل منه، لكن إذا دخل في جملة المقبولين قبل معهم، كما في الحديث القدسي: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، وأيضا لأن العبد لما كان في مقام العبودية وهو أشرف مقام وأعلاه ناسب أن يأتي بصيغة الجمع للتعظيم لهذا المقام.

قوله {إياك نعبد} فيه توحيد الألوهية، الذي هو توحيد العبادة، والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب، وغاية الذل، والعرب تقول: طريق معبد: أي مذلل، فالتعبد لله هو التذلل والخضوع له، مع كمال محبته جل وعلا، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابدا، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدا.

والعبادة: اسم جامع لما يحبّه الله تعالى من الأعمال والأقوال الظّاهرة والباطنة.

ومبناها على أصلين:

الأصل الأول: الإخلاص لله تعالى.

الأصل الثاني: المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة، وهم أهل التوحيد الخالص، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربا من ذمهم، وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه، كما قال تعالى {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال الفضيل بن عياض: "العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه"، وقال تعالى {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، وقال تعالى {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن}، وعن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد).

القسم الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقا لشرع، وليس هو خالصا للمعبود، كأعمال المتزينين للناس، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق، وأمقتهم إلى الله عز وجل، ولهم أوفر نصيب من قوله {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}، يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.

القسم الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد، والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد الله بغير أمره، وقد جاءت الآثار بالتحذير من ذلك، فمنه قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة، يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا: غُيرت السنة! قالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة" [دمي 185].

القسم الرابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله، كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة، ويحج ليقال، ويقرأ القرآن ليقال، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير صالحة، فلا تقبل {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}. [مدارج السالكين 1/104]

قوله {إياك نعبد} ضد العبادة الشرك، وهو نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر، والفرق بينهما من وجهين:

الوجه الأول: أن الشرك الأكبر هو ما يخرج به الإنسان من الملة، أما الأصغر فقال بعض العلماء إنه كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك، ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر، مثل (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فهو أصغر لأنه دلت النصوص على أنه مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة، ومثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما) [خ 6103، م 60]، فقد سماه أخا مع قوله تلك المقولة، وقال بعض العلماء إن الشرك الأصغر هو ما كان وسيلة للأكبر، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك، مثل أن يعتمد الإنسان على شيء كاعتماده على الله لكنه لم يتخذه إلها، فهذا شرك أصغر، لأنه يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر، وهذا التعريف أوسع من الأول.

الوجه الثاني: أن الشرك الأكبر يخرج صاحبه من الملة ويخلد في النار، بخلاف الأصغر.

ومن الشرك الأصغر الرياء، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية {إياك نعبد} تدفع الرياء، و{إياك نستعين} تدفع الكبرياء، والرياء: أن يتعبد الإنسان لله، ليراه الناس ليقولوا إنه عابد ويثنوا عليه، فإن تعبد لغير الله فهو شرك، وإن تعبد لله ليراه الناس فيتبعوه على شريعة الله فهذا لا بأس به، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى فوق المنبر: (إنما فعلت ذلك لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)، أما القول فمن قال قولا يتعبد فيه لله ليسمعه الناس ليمدحوه فهذا يسمى مسمع، فالرياء في الأقوال يسمى تسميعا، وفي الحديث (من سمع سمع الله به) أي فضح رياءه وتسميعه.

وقد مثل ابن القيم للشرك الأصغر فقال:"مثل يسير الرياء"، وهذا يدل على أن الرياء كثيره قد يصل إلى الأكبر.

قوله {إياك نعبد} يشمل جميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، وعبادة الله تعالى متضمنة لكمال محبته وكمال التذلل له -كما سبق-، وهذا التذلل في حقيقته عز، كما قال الشاعر: 

حسب نفسي عزا بأني عبد     يحتفي بي بلا مواعيد رب

هو في قدسه الأعز ولكن        أنا ألقى متى وأين أحب

والإنسان إذا ما أراد أن يقابل عظيما من العظماء فهو يطلب المقابلة، وقد يقبل هذا العظيم مبدأ اللقاء وقد لا يقبل، فإن قبل حدد اليوم والساعة والمكان وفترة الزيارة، فإن أردت أن تطيل فهو يقوم واقفا إعلانا بأن الزيارة قد انتهت.

ولكن الله سبحانه وتعالى بمطلق الكرم لا يعامل خلقه هكذا، فبابه مفتوح دائما حين يدعوك للصلوات الخمس، ولكن بين الصلوات الخمس إن أردت لقاء الله فسبحانه فإنه يلقاك في أي وقت، وتدعوه بما تشاء، وتطيل في حضرته كما تريد، ولا يقول لك أحد: إن الزيارة قد انتهت. 

قوله {وإياك} كرر (إياك) لعدة فوائد: 

الأول: أن الكلام مع الملك يقتضي الإسهاب للتقرب له، وإظهار الأنس به.

الثاني: لو اقتصر على واحد، ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه.

الثالث: قال ابن القيم: "وفي إعادة إياك مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلاً إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف"

قوله {وإياك نستعين} فيه توحيد الربوبية، والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فالعبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه مع ثقته به، وذلك لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به، لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه، والاستعانة بالله تعالى تتطلب الثقة به، وصدق الاعتماد عليه.

قوله {وإياك نستعين} الاستعانة بغير الله على أقسام:

القسم الأول: أن يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه المـُستعان، فهذا شرك أكبر، وقولهم: "ما لا يقدر عليه الـمُستعان" يشمل ما لا يقدر عليه إلا الله، كإنبات الزرع، ورزق الولد، وإحياء الميت، ويشمل ما لا يقدر عليه المستعان لموته، أو لغيبته عن المخاطب.

القسم الثاني: أن يستعين بغير الله فيما يقدر عليه الـمُستعان، مع تعلق القلب واعتماده على الله، فهذه لا بأس بها، وقد جاء في حديث عبد الله بن أبي قتادة لما كان أصحابه محرمين، ولم يكن محرما، ورأى حمارا  وحشيا: (فحملت عليه فطعنته، فأثبتّه، واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني) [خ 1821]، وفي حديث جابر (توفي عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دين، فاستعنت النبي -صلى الله عليه وسلم- على غرمائه) [خ 2127] 

القسم الثالث: أن يستعين بغير الله فيما يقدر عليه الـمُستعان، مع الغفلة عن التعلق بالله، فهذا شرك أصغر، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع" [مجموع الفتاوى 1/131]

قوله {وإياك نستعين} الاستعانة بالله هي التوكل عليه، والتوكل: هو صدق اعتماد القلب على اللّه تعالى في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، مع الأخذ بالأسباب.

وهنا أمران هامان:

الأول: أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ الأسباب، بل ترك الأسباب من نقص العقل والدين، ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا}.

ومنه قول يعقوب الذي وصفه الله تعالى بالعلم في قوله {وإنه لذو علم لما علمناه} {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} محافظة عليهم من العين، ثم قال {وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}.

وقد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: " كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}" [خ 1533].

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل) [ت 2571، قال الحافظ ابن حجر: قال ابن حجر العسقلاني: "فيه النعمان الغفاري، قال أبو حاتم: مجهول"، تعجيل المنفعة 2/310، وقال يحيى القطان: "منكر"، وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار: "أخرجه الترمذي من حديث أنس ... ورواه ابن خزيمة في التوكل، والطبراني من حديث عمرو بن أمية الضمري بإسناد جيد (قيدها)"، وقال الزرقاني: "صحيح من حديث عمرو بن أمية الضمري . ضعيف من حديث أنس"، وحسنه الألباني]

الثاني: أنه مع أخذ الإنسان بالأسباب فإنه يجب ألا يعلق قلبه بها، بل يعلم أنها سبب، وقد جعله الله سببا، والسبب لا ينفع إلا بإرادة الله، ولهذا ينبه الله تعالى عباده إلى عدم التعلق بالأسباب بأن يجريها في بعض الأحيان على غير المتوقع، فمن ذلك: 

1- أن يوجد السبب ويتخلف المسبب، وهذا يظهر فيما قصه الله علينا في سورة الأنبياء وغيرها عن إبراهيم عليه السلام، فالنار طبيعتها الإحراق، ولكن عندما لم يرد الله لها أن تؤثر في إبراهيم، أحرقت الحطب وكانت عليه بردا وسلاما في آن واحد، كما قال تعالى {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم}، ونلاحظ أن الله تعالى لم يقل {كوني بردا} فقط، بل قيده بالسلام؛ لأن البرد المطلق يؤذي.

ونلاحظ أيضا أن الله تعالى لو كان مراده أن ينجى إبراهيم من النار فحسب، لما مكّن خصومه من أن يمسكوه، لكن لو حصل هذا لقال خصومه: لو أمسكناه لقدرنا عليه.

لكنه مكّن خصومه، وأشعلوا النار وأججوها، وكان يمكن أن يأتي الله بغمامة تمطر مطرا تطفئ النار، ولو حصل هذا لقال خصومه: لو لم تأت الغمامة لقدرنا عليه، لكن قدر الله أن يمسكوا به ولا تنطفئ النار، وأن يلقوه في النار، وبعد ذلك يزيل الله تعالى تأثير السبب، لتظهر المعجزة.

فالمؤثر في الحقيقة هو رب العالمين، ولو شاء أن تتخلف مقتضيات الأسباب لتخلفت، ومن توكل نبينا إبراهيم عليه السلام ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" [خ 4563].

2- أن يوجد السبب ويحصل ضده، ومن ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا وجعت عين فتفل فيها برئت، كما فعل في عين علي يوم خيبر، فأراد مسيلمة أن يفعل كفعله، فتفل في عين فعميت، ومج في بئر فغار ماؤها، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها.

ومن قوله تعالى {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم}.

ومنه قوله تعالى {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم} والإلقاء في اليم سبب للهلاك، فعجله الله سببا للنجاة.

3- أن يجعل السبب الواحد منتجا لنتيجتين متضادتين، كما في قوله تعالى {واترك البحر رهوا} فقد يقول قائل: لماذا لم يأمره تعالى بضرب البحر مرة أخرى لكي تكتمل المعجزة، فيحصل له بضرب البحر انشقاقه، وبضربه مرة أخرى رجوعه كهيئته، والجواب أن الله عز وجل يريد أن يرينا أنه بالسبب الواحد قد أنجى وأهلك، فأنجى موسى في اليم، وأغرق فيه فرعون، ليدلنا على أن الأسباب وإن كانت تجري بنسق كوني واحد، إلا أن أمر الأسباب إلى رجع إلى مسبب الأسباب، فلا قانون حينئذ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ومنه قوله تعالى {قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا}، فمن تمام قدرة الله سبحانه وتعالى كون زكريا عليه الصلاة والسلام لا يكلم الناس إلا رمزا، لكن في باب التسبيح ينطلق لسانه بذكر الله. 

4- أن يجعل الله ما لم تجر العادة بأن يكون من الأسباب سببا، ويوضح هذا ما قصه الله في سورة البقرة، إذا أمر بني إسرائيل بذبح بقرة، ليأخذوا عضوا منها بعد أن نزعت منه الحياة فيضربوا به الميت فيحيا، فالسبب مضاد وقد نتج ضده.

ومثل ذلك ضرب موسى للبحر بعصاه، فإن هذا ليس سببا عادة لانفلاق البحر.

5- أن يوجد المسبب دون أن يوجد السبب، كخلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء بلا أم، وخلق عيسى بلا أب.

ولهذا تجد أن الله تعالى يشير في آيات كثيرة إلى أنه هو المدبر، وهو الذي يملك الأمر، فلما وضع يوسف عليه السلام السقاية في رحل أخيه، وأخذه عنده بهذه الحيلة، قال الله بعد ذلك {كذلك كدنا ليوسف ما كان لأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } يعني أن الأمر ليس بيده، ولا بجهده، بل هو من توفيق الله له.

ولما حاج إبراهيم قومه وناظرهم، قال الله عقب ذلك {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه}

ولما أفتى سليمان بالفتوى في الغنم التي أتلفت الحرث، قال الله بعد ذلك {ففهمناها سليمان}

قوله {وإياك نستعين} لم يبين معمول {نستعين} فلم يذكر على ماذا نستعينه، وحذف المعمول يدل على العموم، ليبين أن الاستعانة بالله تكون على كل شيء، في الأقوال والأعمال والأرزاق وغير ذلك.

والاستعانة بالله على العمل لا تعني العمل نفسه فحسب، بل تعني الاستعانة بالله على العمل منذ أن يكون خاطرا وهاجسا يطرأ على البال؛ لأن العمل يمر بمراحل ومراتب، وكل مرتبة يمكن أن يتوقف الإنسان فيها فلا يقوم بالعمل، فالله تعالى هو الذي يملك صرف الهمم والعزائم، كما سئل أعرابي: كيف عرفت ربك؟ قال: بصرف العزائم، ونقض الهمم.

وكل مرتبة يمكن أن يدخل فيها الشيطان على الإنسان، فقد يدخل بالتزيين، كما قال تعالى {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون}، وقد يدخل بإلقاء الخواطر، كما قال تعالى {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم}، وقد يدخل بالتسويف والأمالي والأماني، كما قال تعالى {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم}، وقال تعالى {ولأضلنهم ولأمنينهم}، وقد يدخل عليهم من باب الإنساء، كما قال تعالى {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله}، وقد يدخل عليهم من باب التخويف، كما قال تعالى {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه}، وقد يدخل عليهم من باب الهمز، كما قال تعالى {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين}، وقد يدخل عليهم من باب التحريك والإزعاج والحث، كما قال تعالى {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}، وقد يدخل عليهم من باب النزغ، كما قال تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله}، وقد يدخل من باب المس كما في قوله {يتخبطه الشيطان من المس}، وقد يدخل من باب الوسوسة كما قال تعالى {من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس}

وقد قال ذكر العلماء أن مراتب القصد خمس، وهي: الهاجس والخاطر وحديث النفس والهم والعزم، وقد نظمها بعضهم فقال: 

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا     فخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليـه هـم فعـزم كلها رفعـت              سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

1- الهاجس: وهو الخيال الذي يطرأ على الذهن، ويذهب مباشرة، وعرفه السبكي بأنه: ما يُلقى في النفس، فإن جرى فيها واستقر قليلا فهو الخاطر.

2- الخاطر: وهو الهاجس إذا استقر قليلا، ثم ذهب.

3- حديث النفس: وهو الخاطر الذي يقلّبه الإنسان في نفسه، ويحصل فيه التردد هل يفعله أو لا يفعله، فإن استقر الفعل صار هما.

4- الهم: وهو استقرار إرادة العمل، وترجيح الفعل.

5- العزم: وهو الإصرار التام على العمل، مع صدق الشروع فيه، والجزم به.

والمراتب الثلاثة الأول عفو في طرفي الطاعة والمعصية، فلا ثواب عليها، ولا عقاب، أما من جهة المعصية فقد ثبت في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به) [خ 2369، م 127]

وأما من جهة الطاعة فإن عدم كتابته الحسنات في المرتبة الأولى ظاهر، وأما الثانية والثالثة فلعدم القصد. 

أما المرتبة الرابعة وهي الهم، فهي عفو في جانب المعصية، ومعتبر في جهة الطاعة، فقد جاء في الحديث أن الهم بالحسنة يكتبها الله للعبد حسنة، والهم بالسيئة لا تكتب عليه سيئة، فإن ترك همّ السيئة لله، كُتبت حسنة، كما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه عز وجل قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة) [خ 6491، م 131]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا -وفي رواية إلى سبعمائة ضعف-) [خ 7501، م م 128]

أما المرتبة الخامسة وهي العزم، فإنه يؤاخذ العبد عليها عند أكثر العلماء، وخالف بعضهم فقال: إنه من الهم المرفوع، والصحيح أنه مؤاخذ عليها، لكن مؤاخذته فيها تفصيل: 

الحال الأول: أن يعزم على السيئة، لكن يعجز عنها بدون أن يسعى في أسبابها، فهذا تكتب عليه سيئة، لكن ليس كعامل السيئة، بل يكتب وزر نيته، كما في حديث أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه- مرفوعا: (إنما الدنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء) [ت 2325، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني]

الحال الثانية: أن يعزم على السيئة، ويسعى في الحصول عليها، ولكن يعجز عنها، فيكتب عليه وزر السيئة كاملا، لحديث أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه) [خ 31، م 2888]، وكما قال تعالى {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}.

الحال الثالثة: أن يعزم على السيئة، ثم يعزف عنها، لا لله ولا للعجز، فهذا لا له ولا عليه، وهذا يقع كثيرا، يهم الإنسان بالسيئة ثم تطيب نفسه ويعزف عنها، فهذا لا يثاب لأنه لم يتركها لله، ولا يعاقب لأنه لم يفعل ما يوجب العقوبة. [ذكر نحوه شيخنا رحمه الله في شرح الأربعين النووية، وينظر فيض الباري على صحيح البخاري 4/25] 

قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} قد يتبادر إلى الذهن أن المفترض أن يبدأ بالاستعانة، ثم العبادة، لأنه يطلب من الله أن يعينه على هذه العبادة، وقد ذكر العلماء عدة مناسبات لتقديم العبادة، منها:

أنه قدم الغاية على الوسيلة، لشرف هذه الغاية، ولأن الاستعانة بعظيم، لا بد أن تكون لغاية عظيمة، وهي عبادته جل وعلا.

ومنها: أن {إياك نعبد} متعلق بتوحيد الألوهية، و{إياك نستعين} متعلق بتوحيد الربوبية، والله تعالى قد قدم في أول السورة الألوهية على الربوبية، فقال {الحمد لله رب العالمين}

ومنها: أن {إياك نعبد} هي لله، فكانت من الشطر الأول من السورة الذي هو لله تعالى، و {إياك نستعين} للعبد، فناسب أن تكون في الشطر الثاني، حيث إن ما يليها لآخر السورة للعبد.

قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} الناس في العبادة والاستعانة على أقسام أربعة:

القسم الأول: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، وهذا هو الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقال: (يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) 

القسم الثاني: المعرضون عن العبادة والاستعانة، وهم أهل الكفر والشقاء، وقد يأتي منهم استعانة، لكنها استعانة على الباطل، ولهذا سأل إبليس الله جل وعلا أن يمهله إلى يوم يبعثون، فأجابه لذلك، ولم تكن إجابته له تكريما ولا إكراما، بل كانت زيادة له في شقوته، وبعده عن الله وطرده عنه.

فإجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له، وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤه له من هوانه عليه، وسقوطه من عينه، كما قال الله تعالى {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا} أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه، فذلك من هوانه علي، ولكنه ابتلاء وامتحان.

القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:

الأول: القدرية القائلون بأن العبد مستقل بفعله، والله تعالى قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق، وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعد هذا إعانة يسأله إياها، بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة!

الثاني: من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به

القسم الرابع: من استعان بالله، لكنه لم يدُر مع ما يحبه ويرضاه، فتوكل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها. [مدارج السالكين 1/99]

من فوائد الآية:

1- فيها دليل على وجوب إخلاص العبادة لله تعالى من أسلوب حصر، وطريقه تقديم ما حقه التأخير.

2- فيها دليل على إتباع الشريعة {نعبد} لأن العبادة لا تتم إلا بالإخلاص والمتابعة.

3- أن العبادة إذا أشرك فيها الإنسان لم تكن عبادة {إياك نعبد}، والمعنى: لا نعبد إلا إياك، فلو عبدنا غيرك معك فليست هذه عبادة لك، فكل من عبد غير الله، فقد نقض قوله: {إياك نعبد} فهو كاذب.

4- فيها دليل على إفراد الله بالاستعانة.

5- فيها إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر الاستعانة بالله حال عبادته من قرن الاستعانة بالعبادة في قوله {إياك نعبد وإياك نستعين}.

6- فيها دليل على أن الاستعانة المطلقة لا تكون إلا بالله، أما الاستعانة المقيدة فيمكن أن يستعين بغير الله، لكنها استعانة مقيدة، وتكون فيما يقدر عليه الإنسان، فمن استعان بأهل القبور فاستعانته غير جائزة، لأنه يستعين بمن لا يقدر على إجابة ما يُريد.

7- من فوائد الآية أنه ينبغي للمتكلم أن يأتي بالأشياء التي تثير انتباه المخاطب، ففي الآيات السابقة التفات من الغائب إلى المخاطب، فمن أول السورة إلى قوله {مالك يوم الدين} الأسلوب هنا للغائب، ثم في قوله {إياك} التفات للخطاب.

8- فيها دليل على أن الإنسان ينبغي أن يكون مع الصالحين {نعبد}.

9-دليل على اجتماع الأمة، وأنه ينبغي للأمة أن تتفق على عبودية الله {نعبد}.


اهدنا الصراط المستقيم

قوله {اهدنا} تشمل نوعا الهداية، والهداية نوعان: 

أولا: هداية دلالة وإرشاد، وهي لكل أحد، قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} أي تدل وترشد إليه، وقال تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، وقال تعالى {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}، وقال تعالى {وهديناه النجدين}.

ثانيا: هداية التوفيق والمعونة، وهذه لله وحده، قال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}، وقال تعالى {ومن يهد الله فهو المهتد}، وقال تعالى {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}، وقال تعالى {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}، وقال تعالى {أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا}، وقال تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة}، وقال تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}

وبهذا التفريق يتبين معنى قوله تعالى {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}، أي بينا لهم الحق، ودللناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا.

والمصلي عندما يقول {اهدنا} فإن ذلك يشمل هداية الدلالة وهداية التوفيق؛ لأنه إذا لم يوفق الله العبد لسلوك طريق الحق فإنه سيهلك، وإذا وفقه وأعانه لكن إلى غير هدى ودلالة، فإنه سيهلك، ولهذا كان بعض السلف يقول إن أخوف آية قوله تعالى {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}، وهذا مثل قوله تعالى {عاملة ناصبة تصلى نارا حامية} على أحد الوجهين في تفسير الآية.

قوله {اهدنا الصراط المستقيم} هذا الدعاء أعظم ما يدعو به العبد ربه، وانظر إلى حديث عائشة -رضي الله عنها- في استفتاح النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته بالليل، كان يقول: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) [م 770]، وهذا وهو النبي الذي يوحى إليه، وما ينطق عن الهوى، كان يسأل ربه الهداية.

وهذا التضرع لو سمعه الإنسان من رجل لا يعلم أنه نبي، ولا يعلم أنه حديث، لظن أن هذا رجل في متاهة في صحراء أو نحو ذلك، ولكنه دعاء نبي أدرك مقدار عظمة الله سبحانه وتعالى من جهة توفيق العباد وسلب توفيقهم.

قوله {اهدنا} هذا الدعاء يدعو به المسلمون في صلاتهم، ولكن قد لا تحصل هداية التوفيق للجميع، بل إن الهداية لا تحصل إلا للقليل، كما قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور}، وقال تعالى {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}، وقال تعالى عن نوح {وما آمن معه إلا قليل}، وقال تعالى {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}، وقال تعالى {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، وقال تعالى {‏أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}، وقال تعالى {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}، وقال تعالى {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}

فإن قال قائل: إذا كان الله تعالى يحب هداية الناس، ولا يحب الفساد، فلماذا لا يعينهم على ذلك، ويوفقهم إليه؟ فالجواب عن هذا من وجهين:

الأول: أن الله لا يعين إلا من كان صادقا في سؤاله، مخلصا في طلبه، أما من أراد الضلالة فإن الله يخذله، قال تعالى {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} الآيات، وقال تعالى {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، فالله رضي للكافرين الإيمان، ولكنه لم يخلق الإرادة التامة فيهم ولم يعنهم لأنهم يريدون الضلالة والغواية، وقال تعالى {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} وقال تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}، وقال تعالى {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به}، والآيات في هذا كثيرة.

وقال تعالى {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به}، والآيات في هذا كثيرة، ومثله في المؤمنين قال تعالى {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وقال تعالى {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم}.

الثاني: لو أعان الله كل أحد لترتب على ذلك محذوران أو أحد محذورين: 

الأول: فوات محبوب لله هو أعظم عند الله من طاعة ذلك العبد.

والثاني: حصول مفسدة هي أكره عند الله من فوات تلك الطاعة من ذلك العبد.

ويظهر ذلك جليا بالمثال، قال تعالى {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} فالخروج للجهاد طاعة محبوبة لله تعالى، والله تعالى أمر أولئك المنافقين بالجهاد، لكنه لم يعنهم لسببين سبق إيضاحهما:

الأول: أنهم لم يصدقوا مع الله ولم يخلصوا له ولم يريدوا الجهاد حقيقة، ولهذا قال تعالى {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}.

الثاني: أن في خروجهم ترتب المحذورين اللذين سبق إيضاحهما: الأول: فوات محبوب لله هو أعظم عند الله من تلك الطاعة من أولئك القوم وهذا المحبوب هو تمييز المؤمن عن المنافق، والثاني: حصول مفاسد هي أكره عند الله من تخلف أولئك عن القتال، وهذه المفاسد ذكرها الله في قوله {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم}، ولهذا قال {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [مدارج السالكين 2/196]

ومثال ذلك عندنا ولله المثل الأعلى: لو أن هناك امرأة صالحة تعد نفسك لخطبتها ثم الزواج منها من فترة طويلة، فجاءك شخص وقال ما رأيك في فلانة، أريد أن أتزوجها، وكانت هي نفس المرأة التي تعد نفسك أنت لها، فستقول له الحقيقة: أنها صالحة ومستقيمة ... الخ، فلو قال لك: تعال معي لتكلم أهلها عني، فستعتذر إليه ولن تذهب، فأنت عليك النصح، وليس عليك معونة كل أحد، والله تعالى بين للناس طريق الخير من طريق الشر، ولا يلزم أن يعين إلا من توفرت فيه شروط استحقاق المعونة.

ومثال آخر: إذا كان هناك إنسان يمشي في الطريق ويريد الاتجاه إلى مدينة، وهو لا يعرف الطريق الموصل إليها، فيسأل شرطي المرور، فيشير الشرطي: هذا هو الطريق الموصل إلى المدينة. 

فالشرطي هدى هذا الإنسان ودله على الطريق، فإذا ما كذب المسافر قول الشرطي، وقال له: أنت لا تعرف شيئا، فسيتركه الشرطي ويمضي، وإذا ما صدق المسافر قول الشرطي، وقال له: إنني أشكرك وأكثر الله من خيرك، والحمد لله أنني وجدتك، فلولا وجودك لتعبت، هنا يقول الشرطي: أنت رجل طيب والطريق إلى المدينة فيه عقبة، ولهذا سأركب معك حتى أدلك على مكان هذه العقبة، وبذلك يتجاوز الشرطي مرحلة (الدلالة) إلى مرحلة (المعونة).

فإن قيل: أليس في عدم إعانة الله لبعض الناس حجة لهم على معصيتهم أو كفرهم؟ فالجواب أن الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعصية باطل من وجوه عدة، سبق بيانها في ملف العقيدة.

قوله {اهدنا} هداية الله لعبده تشمل ثلاث منازل:

الأولى: الهداية قبل العمل، وذلك بأن يوقظ الله قلب العبد للحق، ويوفقه للتوبة، ويلقي فيه العزيمة الباعثة على العمل.

الثانية: الهداية أثناء العمل، وذلك بأن يجعل عمله خالصا لله، صوابا موافقا لشرعه.

الثالثة: الهداية بعد العمل، وذلك بأن يحفظ عمله من الضياع بسبب سيئات أخرى، أو بمنة بعد العمل، ويدخل فيه أن يهديه بعد العمل إلى التوبة والاستغفار، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستغفر بعد العبادة، فالتوبة منزلة تكون قبل وأثناء وبعد العمل.

قوله {اهدنا} الفعل (هدى) في الأصل يتعدى باللام أو بإلى، كقوله تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، وقوله {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، وقوله {ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط}، لكنه هنا عداه بنفسه فقال {اهدنا الصراط}، فما سر ذلك؟ 

فالجواب: ليشمل ذلك معنيان: اهدنا (في)، واهدنا (إلى)، فمن كان بعيدا عن الهداية فإنه يسأل الله أن يهديه إليها، ومن كان فيها فيسأل الله أن يزيده منه وفيها تعمقا وتمسكا، ولو عدى (اهدنا) بإلى أو بفي، لكان في ذلك حصر لمعنى واحد، لكن أطلق ليشمل كلا المعنيين.

والعبد وإن كان مؤمنا فهو محتاج إلى أن يسأل ربه الهداية، ولهذا امتن الله تعالى على نبيه بذلك فقال {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا}

وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) [م 2577]

قوله {اهدنا} اشتملت الآية على شفاء القلوب، وشفاء الأبدان، أما شفاء القلوب فإن القلب مدار علته على أمرين: فساد العلم، وفساد القصد.

أما فساد العلم فهو أن لا يعلم الإنسان أن الغاية هي طلب رضا الله تعالى، والحصول على رضوانه، فيلتمس رضا غيره، باتباع الشهوات، أو عبادة الأوثان، فيترتب على فساد العلم: الضلال عن الصراط المستقيم.

وأما فساد القصد فهو أن يعرف الإنسان الغاية، لكنه لا يتوصل لها بالطرق الموصلة، فيترتب على فساد القصد: الغضب.

فقوله تعالى {اهدنا الصراط المستقيم} يتضمن سؤال العبد ربه أن يهديه، وهذا طلب تصحيح القصد، وسؤال العبد ربه أن يكون ما يهديه إليه الصراط المستقيم، وهذا طلب تصحيح العلم والغاية.

وقوله بعد ذلك {غير المغضوب عليهم} وهم أهل فساد القصد، وقوله {الضالين} وهم أهل فساد العلم.

وأما شفاء الأبدان، فقد دلت السنة على الرقية بالفاتحة.

قوله {الصراط}وفي الآية قراءة بالصاد، والسين، وإشمام الصاد بالزاي، وكلها متواترة، والصراط على وزن فعال، بمعنى: مصروط، مثل: فراش، بمعنى: مفروش، وغراس، بمعنى: مغروس، فهو بمعنى اسم المفعول.

والصراط في اللغة هو الطريق الواسع؛ وسمي صراطا لأنه يبتلع سالكه بسرعة دون ازدحام، ولا مشقة، كما أنك إذا بلعت اللقمة بسرعة يقال: "زرطها"

قوله {الصراط} ذكر الصراط مفردا ومعرفا بأل، ليفيد تعيينه واختصاصه، وأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}، وقال تعالى {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}، وقال تعالى {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم}، وقال تعالى {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم}، وقال تعالى {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم}، والآيات في هذا كثيرا.

وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: (خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}) [حم 4131، جه 11 من حديث جابر].

وعن النواس بن سمعان الأنصاري -رضي الله عنه- مرفوعا: (ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط -وفي رواية: رأس الصراط- داع يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا، ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط -وفي رواية: من فوقه-، فإذا أراد يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم). [حم 17182، ت 2859، وصححه الألباني]

وهل يشعر السالك أنه قد انحرف عن الصراط المستقيم؟

الجواب: إذا كان فيه قلبه حياة، فإنه يشعر بذلك، كما ثبت النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البر والإثم، فقال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) [م 2553]

وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: (كنا عند عمر، فقال: أيكم سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره، قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر الفتن التي تموج موج البحر، قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عُودا عُودا، فأي قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) والأسود المرباد هو: الأسود المختلط بكدرة. [خ 1435، م 144 واللفظ لمسلم]، وقوله في الحديث (أشربها) يشبه قوله تعالى {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم}، يعني دخل في قلوبهم دخولا تاما، وتمكن منهم.

قوله {اهدنا الصراط المستقيم} قال ابن القيم: "من هُدِيَ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسلَه، وأنزل به كتبه، هُديَ هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودارِ ثوابه، وعلى قَدْرِ ثُبوتِ قَدَمِ العبد على هذا الصراط الذي نصبه اللهُ لعباده في هذه الدار، يكونُ ثبوتُ قدمِه على الصراط المنصوبِ على متن جهنم، وعلى قَدْرِ سيْرِه على هذا الصراط، يكون سيرُه على ذاك الصراط، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المخدوش المسلم، ومنهم المكردس في النار، فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا" [مدارج السالكين 1/33]

قوله {اهدنا الصراط المستقيم} ذكر العلماء أن هذا الصراط يقعد عليه الشيطان بسبع عقبات:

العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.

والشرك بالله أعظم ذنب عصي به الله تعالى، وهو أعظم نواقض الإسلام جرما، وقد أخذ الله على نفسه أن لا يغفر للمشرك شركه إلا أن يتوب، فلا يكفر الشرك شيء من أنواع المكفرات المعروفة إلا أن يتوب المشرك من شركه، ولذا قال سبحانه {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}

وهو الظلم العظيم، {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قلنا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}) [خ 3360، م 124]

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول -صلى الله عليه وسلم- {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}) [خ 6001، م 86]

وصاحب الشرك محرم عليه الجنة {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}، ومحبط جميع عمله {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}، وقال تعالى {لئن أشركت ليحبطن عملك}.

وهو نوعان: أكبر وأصغر وقد سبق بيان ذلك.

واعلم أن حجة المشركين منذ الأزل هي أنهم قد وجدوا آباءهم على هذا المنهج، كما قال تعالى {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، وقوله {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}، ومن اللطائف أن قولهم: إنهم وجدوا آباءهم على الشرك صحيح، لكنهم في الحقيقة كاذبون في ادعاء اتباع الآباء، لأنهم لو كانوا متبعون حقيقة للآباء، لما كان هناك حاجة لإرسال الرسل، لأن الله تعالى أرسل آدم عليه السلام بالمنهج، ولو كان من بعده اتبع الآباء، ومن بعدهم كذلك، لكان الكل على منهج أبينا آدم عليه السلام، لكنهم يغيرون ما وجدوا عليه الآباء، ولهذا حصل الشرك وأنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وإنما هم متبعون للآباء فيما لهم فيه هوى، وليسوا متبعين حقيقة للآباء.

فإن قال قائل: لماذا تحذرون من الشرك ونحن في بلاد التوحيد والحمد لله؟

فالجواب: رغم البشارات العظيمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنذر كذلك بعودة الشرك والوثنية إلى هذه جزيرة العرب، وهذا كله يدل على أن الأحاديث التي يُفهم منها امتناع عودة الشرك إلى جزيرة العرب ليس على إطلاقها، وإنما هي محمولة على معانٍ أو أحوال مخصوصة.

ومن هذه الأحاديث حديث ثوبان -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) [ت 2219، وصححه الألباني]

ومنها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخَلَصَة) [خ 7116، م 2906]، وذو الخلصة بيت فيه أصنام، كان في اليمن، وقد أرسل له النبي -صلى الله عليه وسلم- جرير بن عبد الله كما في الصحيحين من حديث جرير قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جرير! ألا تريحني من ذي الخلصة، بيت لخثعم كان يدعى كعبة اليمانية، قال: فنفرت في خمسين ومائة فارس، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضرب يده في صدري، فقال: اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا، قال: فانطلق فحرقها بالنار، ثم بعث جرير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يبشره)

ومنها حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعا: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أن ذلك تام، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة، فَتَوَفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم) [م 2907] 

العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة، إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين، التي لا يقبل الله منها شيئا، والبدعتان في الغالب متلازمتان، قلّ أن تنفك إحداهما عن الأخرى.

والبدع كلها مذمومة، وليس منها بدعة حسنة، وبدعة سيئة، ولهذا قال تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}

فإن قيل: أليس قد قال عمر بن الخطاب في جمع الناس على التراويح: "نعم البدعة هذه" [خ 2010]؟ 

فالجواب: أن المراد بذلك البدعة اللغوية؛ لأن جمع الناس على الصلاة كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما تركه لأنه خاف أن يفرض على الناس.

فإن قيل: أليس هناك سنة حسنة، فالجواب أن السنة الحسنة هي التي توافق الشرع، وهذه تشمل أن يبدأ الإنسان بالسنة أي يبدأ العمل بها، أو يبعثها بعد تركها، أو يفعل شيئاً يسنه يكون وسيلة لأمر متعبد به فهذه ثلاثة أشياء:

الأول: إطلاق السنة على من ابتدأ العمل ويدل له سبب الحديث، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حث على التصدق على القوم الذين قدموا عليه -صلى الله عليه وسلم-، وهم في حاجة وفاقة، فحثّ على التصدق فجاء رجل من الأنصار بصرة من فضة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، فهذا الرجل سنَّ سنة ابتداء عمل لا ابتداء شرع.

الثاني: السنة التي تركت ثم فعلها الإنسان فأحياها فهذا يقال عنه: سنها بمعنى أحياها وإن كان لم يشرعها من عنده.

الثالث: أن يفعل شيئاً وسيلة لأمر مشروع، مثل بناء المدارس وطبع الكتب فهذا لا يتعبد بذاته، ولكن لأنه وسيلة لغيره فكل هذا داخل في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها".

العقبة الثالثة: وهي عقبة الكبائر، وهل كل ذنب رتب عليه عقوبة خاصة، كالبراءة منه، ونفي الإيمان، واللعنة، والغضب، والحد، وما أشبه ذلك.

وقد حاول بعض العلماء عدّها، لكن الصواب أنها محدودة وليست معدودة، فيكون حديث أنس بن مالك حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة حدثنا عبيد الله بن أبي بكر سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعا: (أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور أو قال وشهادة الزور) [خ 6871] هذا من باب التمثيل، لا الحصر.

فإن ظفر به الشيطان فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوّف به، وفتح له باب الإرجاء، وقال له: الإيمان هو نفس التصديق، فلا تقدح فيه الأعمال، وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق، وهي قوله: لا يضر مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك حسنة.

العقبة الرابعة: وهي عقبة الصغائر، فقال له: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم، أوما علمت بأنها تكفر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالا منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعا: (إياكم ومحقرات الذنوب، ثم ضرب لذلك مثلا بقوم نزلوا بفلاة من الأرض، فأعوزهم الحطب، فجعل هذا يجيء بعود، وهذا بعود، حتى جمعوا حطبا كثيرا، فأوقدوا نارا، وأنضجوا خبزتهم) [حم 3808، وحسنه الحافظ في فتح الباري]، فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه.

وقد اتفق العلماء على أن أصغر السيئات مجهول، والحكمة في ذلك أن يكون الإنسان على وجل شديد من جميع السيئات، فلربما وقع في أمر يراه صغيرا وهو كبير، كما قال تعالى {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}. 

والوقوع في المعاصي من الصغائر وما فوقها حتى الشرك بالله سببه إما من الشيطان أو هوى النفس الأمارة بالسوء، فإن قيل: كيف يعرف الفرق بينهما؟

قالوا: إذا كانت النفس تلح عليك أن تفعل معصية بعينها، بحيث إذا صرفتها عنها عادت تلح عليك لاقتراف نفس المعصية لتحقق متعة عاجلة، فهذا إلحاح من النفس الأمارة بالسوء.

أما الشيطان فهو لا يريد منك ذلك، إنما يريدك مخالفا لمنهج الله على أي شكل ولون، فإذا استعصى عليه أن يجذبك إلى المال الحرام، فهو يزين لك شهوة النساء، فإذا فشل جاء من ناحية الخمر. فهذا هو الفرق.

واعلم أن الصغيرة قد تصبح كبيرة بأمور:

1- الإصرار، ويدل لذلك قول الله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} 

وقال نوح عن قومه {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا}

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مرفوعا: (ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) [حم 6505، والبخاري في الأدب المفرد 380، وحسنه الحافظ في الفتح 1/137، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص151]، وقوله (أقماع القول) أي آذانهم كالقمع، فهم يسمعون ولا يعون ولا يعملون.

ومن هنا قال العلماء: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار

وحتى لا يكون العبد مصرا فإن عليه لزوم التوبة، وإن كررها، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبد ذنبا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى، أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب) الحديث حتى قال: (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) [م 2758]

2- الاستصغار، ويدل لذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم) [خ 6478، م 2988]، وفي رواية (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات" [خ 6492]

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا، فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا، وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر اذهبوا به إلى النار) قال أبو هريرة: "والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته" [د 4901، وصححه الألباني، وله شاهد من حديث جندب في مسلم 2621، وفيه (من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)]

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: (من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن) [ت 2165، وصححه الألباني]

وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- موقوفا عليه: "المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل، ويخاف أن يسقط عليه، والمنافق يرى ذنوبه -وفي رواية والفاجر- كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا" [خ 6308، ت 2421، حم 3446]

وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: "إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها وينسى المحقرات، فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال منها مشفقا حتى يلقى الله آمنا" [فتح الباري 11/330]

ولهذا لما استصغر المنافقون استهزاءهم في المؤمنين في إحدى الغزوات حكم الله عليهم بالكفر، لاستهزائهم ولاستصغارهم الذنب، فقد قالوا: ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله تعالى قوله {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} وقوله {إن نعف} هذا في قراءة عاصم، وفي سائر القراءات {إن يُعف} بالبناء للمجهول استبعادا للعفو عن أولئك الناس.

وعلاج ذلك ما قاله العلماء: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، ولهذا قال أبو مجلد: "أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي، وتظهرونها لي، إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟"

وعن عتبة بن عبد -رضي الله عنه- مرفوعا: (لو أن رجلا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرما في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة) [حم 17197]

3- الإعلان والجهار، ويدل لذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه) [خ 6069، م 2990] 

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: (يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم) [جه 4019، وحسنه الألباني] 

فهنا قيد ظهور الفاحشة بإعلانها، وإلا فقد كان هناك شرب خمر وزنا وسرقة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنهم لم يكونوا يعلنون بذلك.

وقد توعد الله تعالى من يحب أن تنتشر الفاحشة في المؤمنين، كما قال تعالى {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}، وهذا في محبة شيوع الفاحشة، فكيف بمني يشيعها!

4- أن يكون فاعل الصغيرة ممن يقتدى به، ويدل لذلك قوله تعالى {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}

ولهذا كان عمر بن الخطاب إذا أمر الناس بشيء أو نهاهم عن شيء رجع إلى أهله وقال: "إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيت الناس عن كذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، والذي نفس عمر بيده لا أسمع أن أحدا منكم ترك الذي أمرت به، أو فعل الذي نهيت عنه إلا ضاعفت عليه العقوبة".

العقبة الخامسة: وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات، وأقل ما ينال منه تفويته الأرباح، والمكاسب العظيمة، والمنازل العالية.

وقد ذم الله الترف في كتابه في غير ما آية، منها قوله تعالى{واتبع الذي ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين}، وقوله تعالى {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها}، وقوله تعالى {وكم قصمنا من قرية كانت ظالم وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون}، وقوله تعالى{بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون * حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون}، وقوله تعالى {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا}، وقوله تعالى {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنما بما أرسلتم به كافرون}، و قوله تعالى {وكذلك وما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، وقوله تعالى {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا}، وقوله تعالى {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم} [الواقعة:45]

وفي حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: (إنا لجلوس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد إذ طلع مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو اليوم فيه، ثم قال: كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة، وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة، ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة، قالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم، نتفرغ للعبادة ونُكفى المؤنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لأنتم اليوم خير منكم يومئذ) [ت 2476، وضعفه الألباني]

العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها، وحسنها في عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسبا وربحا، لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له.

كأن يزين له صلاة السنة في المسجد، مع أن صلاتها في البيت أفضل، أو يزين له في وقت الذكر أن يقرأ القرآن، أو في وقت الصلاة أن يجلس لذكر الله، أو في وقت إجابة المؤذن أن يقرأ القرآن.

ومثله أن يطيل الإنسان سنة الفجر، والسنة فيها التخفيف، أو أن يطيل في ركعتي تحية المسجد والإمام يخطب والسنة فيها التخفيف.

العقبة السابعة: فإذا نجا مما سبق، لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليه، وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جد في الاستقامة والدعوة إلى الله، والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب، وأخذ في محاربة العدو لله وبالله، فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين، وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه، وإغاظته له، وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه، كما قال تعالى {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة} سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغما يراغم به عدو الله وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوه، وإغاظته، كما قال تعالى {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين}، وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}، فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين، وقال (إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان) وفي رواية (ترغيما للشيطان) [مدارج السالكين 1/237]

قوله {اهدنا الصراط المستقيم} فيما يتعلق بعقبات الشيطان، جاء في حديث سبرة بن أبي فاكه -رضي الله عنه- مرفوعا: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تُسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة) [حم 15528، ن 3134، وصححه الألباني]، وقوله (كمثل الفرس في الطول) هذا من كلام الشيطان، والطول هو الحبل الذي يشد أحد طرفيه في وتد، والآخر في يد الفرس، والمعنى أن الشيطان يقول له إنما مثل المهاجر مقيد في بلاد الغربة، لا يدور إلا في بيته وما حوله، فهو كالفرس المحبوس بحبل، لا يتحرك إلا بمقدار طول هذا الحبل.

من فوائد الآية:

1- أن الهداية بيد الله، من قوله {اهدنا} فسألنا الله وحده.

2- فيها دليل على أن الهداية - هداية التوفيق - لله وحده، لأننا سألناها الله وحده.

3- فيها دليل على أن الإنسان مفتقر إلى ربه من قوله {اهدنا}.

4- فيها دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يزداد تمسكا بالدين ويتعمق فيه، من قوله {اهدنا الصراط} 

5- أنه لا يجوز للإنسان أن يغتر أو يمن بعمله، من قوله {اهدنا}، فالله هو المتفضل على الإنسان المسلم بالهداية، فكل عمله وهدايته من الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}

6- إن دين الإسلام دين واسع، وشامل، من قوله {الصراط} فمعناه في اللغة الطريق الواسع، فإذا وصف الله الإسلام بأنه صراط، فمعناه أنه واسع وشامل، فالإسلام نظم حياة الإنسان في كل شيء، ولهذا يُقال: إن دين الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن هناك من يتلاعب بهذه الكلمة، فيغير ويبدل إذا لم يعجبه شيء من الأحكام بحجة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ومعنى صالح: أنه مصلح.

7- أن هناك صراطا غير مستقيم، وليس واحد بل طرق وصرط كثيرة غير مستقيمة، من قوله {الصراط المستقيم}، فهذا دليل على أن هناك صرط غير مستقيمة، والله تعالى يصف دين الإسلام بأنه: صراط، والصراط: الطريق الواسع وهو طريق واحد غير مختلف ولا مضطرب، بينما يصف الله تعالى الطرق الضالة بأنها سبل، لأن السبيل هو الطريق الضيق الذي له نهاية في الغالب، قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.

فإن قيل فما هو الجواب على قوله تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} ففي هذه الآية قال تعالى {سبل السلام}، ولم يقل: الصراط، أو سبيل السلام؟

ولجواب: أن هذه السبل داخل الصراط، وليست خارجة عنه، ويدل لهذا أن أضافها الله إلى السلام، والسلام بمعنى السلامة من كل مكروه، وإذا كانت هذه السبل هي سبل السلام، فهي داخلة داخل الصراط 

8- أن دين الإسلام كامل لا اعوجاج فيه ولا انحراف {المستقيم}.

9- كمال رحمة الله بالخلق، حيث إن الله جعل الصراط الموصل إليه، صراطا مستقيما، ليس فيه متاهة ولا انحراف، ولا ضيق ولا اعوجاج، لأنه واسع مستقيم.


صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين

قوله {صراط الذين أنعمت عليهم} هنا أضاف الصراط إلى السالكين، ولم يضفه إلى نفسه جل وعلا كما قال في آية أخرى {وأن هذا صراطي مستقيما}، وقوله {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله}، وقوله {وهذا صراط ربك مستقيما}، بل قال {صراط الذين أنعمت عليهم}، مع أن إضافة الصراط لله أشرف وأعظم، ومناسبة ذلك من وجهين: 

الوجه الأول: أنه لما كان طالب الصراط المستقيم طالبا لأمر أكثر الناس ناكبون عنه، وكان مريدا لرفقة على هذا الطريق، فالنفوس مجبولة على وحشة التفرد، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحان إلى الرفيق في هذا الطريق، وأنهم هم {الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، فأضاف الطريق إلى السالكين ليزول عن الطالب للهداية وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، ولهذا قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين".

الوجه الثاني: أن في الآية توسلا إلى الله بنعمه، وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية، أي قد أنعمت بالهداية على من هديت، فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة، واجعلني واحدا من هؤلاء المنعَم عليهم.

قوله {أنعمت} نسب الله النعمة إلى نفسه، ولم ينسب الغضب في قوله {غير المغضوب عليهم}، فلم يقل (غضبت عليهم) لوجوه:

الوجه الأول: أن إضافة الغضب بالفعل مباشرة إلى الله فيه شدة لا تليق برحمة الله وعفوه، وإن كان الغضب قد أضيف مباشرة إلى الله في مواضع أخرى، لكن ليس بلفظ (غضبت)، مثل قوله تعالى {ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله}، وقوله {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى}، وقوله {أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم}

وطريقة القرآن إضافة النعمة والخير والفضل إلى الله تعالى مباشرة، وحذف الفاعل في مقابل ذلك، كما قال تعالى {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}، وقال تعالى {زين للناس حب الشهوات من النساء} والمزين هو الله، وقول الخضر في شأن السفينة {فأردت أن أعيبها}، مع أنه قال بعد ذلك {وما فعلته عن أمري}، وقال في الجدار {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما}، وقال تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}، مع قوله {قل كل من عند الله}، ومنه قول إبراهيم الخليل {الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين} فنسب المرض لنفسه، ونسب الخلق والإطعام لله.

الوجه الثاني: أن الله تعالى هو المنفرد بالنعم، كما قال تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله}، فأضيف إليه ما هو منفرد به، وأما الغضب على أعدائه، فلا يختص به تعالى، بل ملائكته وأنبياؤه وأولياؤه يغضبون لغضبه، كما قال تعالى {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.

الوجه الثالث: أن ذكر الفاعل في النعمة فيه تشريف للمنعم عليه، كما تقول: هذا الذي أكرمه الملك، فهو أعظم من قولك: هذا الذي أُكرم، أو هذا الذي أُنعم عليه، فكان ذلك أبلغ مما لو قال (صراط الـمُنعم عليهم).

قوله {أنعمت} لم يبين هذه النعمة، ونعم الله تعالى تدور على ثلاثة أشياء:

الأول: نعمة إيجاد، وهذه يشترك فيها المسلم والكافر.

الثاني: نعمة إمداد

الثالث: نعمة إعداد

قوله {أنعمت عليهم} لم يبين هنا من هؤلاء الذين أنعم عليهم، وبين ذلك في موضع آخر بقوله {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، وبيانهم فيما يأتي:

أولا: النبيون، وهم كل من أوحى الله إليهم ونبأهم، فيشمل الرسل، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، ويشمل أولي العزم وغيرهم.

ثانيا: الصديقون، وهو جمع صديق على وزن فعِّيل صيغة مبالغة، والصديق اختلف العلماء في معناه، وأحسن ما يفسر به الصديق قوله تعالى {والذي جاء بالصدق وصدق به}، وقال تعالى {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون}، وهذا يشمل: الصدق في العقيدة: بالإخلاص، وهذا أصعب ما يكون على المرء، حتى قال بعض السلف: ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص.

ويشمل الصدق في المقال، فلا يقول إلا ما طابق الواقع، سواء على نفسه أو على غيره، فهو قائم بالقسط على نفسه وعلى غيره، أبيه وأمه وأخيه وأخته.. وغيرهم.

ويشمل الصدق في الفعال، وهي أن تكون أفعاله مطابقة لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وأفضل الصديقين على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، لأن أفضل الأمم هذه الأمة، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه.

والصديقية مرتبة تكون للرجال والنساء، قال الله تعالى في عيسى ابن مريم {وأمه صديقة}، ويقال: الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، والله تعالى يمن على من يشاء من عباده.

ثالثا: الشهداء، واختلف العلماء فيهم، فقيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله، لقوله {وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء}، وقيل: العلماء، لقوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم}، فجعل أهل العلم شاهدين بما شهد الله لنفسه؛ ولأن العلماء يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الأمة بالتبليغ.

ولو قال قائل: الآية عامة لمن قتلوا في سبيل الله تعالى وللعلماء، لأن اللفظ صالح للوجهين، ولا يتنافيان، فيكون شاملا للذين قتلوا في سبيل الله وللعلماء الذين شهدوا لله بالوحدانية وشهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ وشهدوا على الأمة بأنها بلغت.

رابعا: الصالحون، ويشمل كل الأنواع الثلاثة السابقة ومن دونهم في المرتبة، فالأنبياء صالحون، والصديقون صالحون، والشهداء صالحون، فعطفها من باب عطف العام على الخاص.

والصالحون هم الذين قاموا بحق الله وحق عباده، لكن لا على المراتب السابقة. 

قوله {أنعمت عليهم} ذكر الشنقيطي رحمه الله أنه يؤخذ من الآية صحة إمامة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ لأنه داخل فيمن أمرنا الله بأن نسأله أن يهدينا صراطهم، فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم. [أضواء البيان 1/35]

قوله {غير المغضوب عليهم} قيل هم اليهود؛ واستدلوا بحديث عدي بن حاتم مرفوعا: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال) [ت 2954، وصححه ابن تيمية وابن القيم، منهاج السنة 2/11، مفتاح دار السعادة 1/188]؛ ولأن الله وصفهم بذلك فقال {من لعنه الله وغضب عليه}.

والصحيح أنها عامة في كل من علم بالحق ولم يعمل به، ولهذا قال بعض السلف: من فسد من العلماء ففيه شبه باليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى.

قوله تعالى {ولا الضالين} قيل هم النصارى؛ لأن الله وصفهم بذلك في قوله {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا} قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنها عامة في كل من عمل بغير الحق جاهلا به.

من فوائد الآية:

1- تسلية للمؤمنين في كل زمان ومكان، من قوله {أنعمت عليهم}، فإن هذا الصراط قد سلكه أناس من قبلكم، ووصلوا، لأنه قال: أنعمت، فهم وصلوا للصراط وسلكوه، ورأوا فيه النعمة، ورأوا فيه الخير والصراط، فإذا أحس الإنسان بغربة، فليعلم أن هذا الطريق قد سلكه أناس من قبله وقد وصلوا.

2- أنه ينبغي أن نبحث عن سيرة أولئك الذين أنعم الله عليهم، حتى نهتدي بهديهم.

3- أن نعمة الدين هي أكبر نعمة، وهي أهم نعمة، ووجه ذلك في الآية أن نعم الله شاملة لكل أحد، حتى الكافر قد أصابته نعم الله المتوالية، لكن الله تعالى لما تكلم عن المؤمنين قال {أنعمت} ولما تكلم عن الكافرين قال {المغضوب} مع أن الكافرين أصابتهم نعمة الله، لكنهم لم تصبهم نعمة الهداية والإيمان، فنفاها الله عنهم، ولم يتحدث عن نعمة سوى نعمة الهداية والإيمان، لأنها أهم نعمة، أما النعم الأخرى التي أصابت الكافرين فهي نعم دنيوية تزول، والنعمة الحقيقية هي نعمة الإسلام.

4- أن من سلك هذا الصراط فهو في نعيم وسرور من قوله {أنعمت}، لهذا قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.

5- أن دين الإسلام هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، أما غير هذا فلا، من قوله {اهدنا الصراط المستقيم} ثم فسره فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} ومعناه: أن الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هم من يمثل الصراط المستقيم أما غيرهم فلا.

6- أنه يجب معاداة الكفار، لأنهم ليسوا على الصراط المستقيم، ولهذا مايزهم الله تعالى بقول {غير}، كما قال تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة وهم راكعون ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.

7- أن الناس ينقسمون إلى ثلاث فرق:

أ- قسم علموا وعملوا، وهم المؤمنون.

ب- علموا ولم يعملوا، وهم المغضوب عليهم.

ج- عملوا بلا علم، وهم الضالون.

8- أن من علم الحق ولم يعمل به، أصابه غضب الله {المغضوب عليهم}.

9- ومن فوائد الآية أن من علم الحق ولم يعمل به، شر ممن عمل بلا علم، ووجه ذلك أن الله قدم المغضوب عليهم على الضالين.

10- إثبات لصفة الغضب لله عز وجل {المغضوب}، وهي ثابتة في قوله تعالى {فلما آسفونا انتقمنا منهم} أي أغضبونا.

11- أن الضلالة صفة ممقوتة من قوله {ولا الضالين}.

12- أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرط في العلم من قوله {ولا الضالين} فالضالون عملوا بلا علم.

13- أن أهل الصلاح موجودون في كل عصر، من قوله {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فنحن نسأل الله أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم، ونسأله أن يجنبنا صراط المغضوب عليهم، ولا يتبين أي صراط منهما إلا بوجود الآخر.

14- أن الهداية من الله وحده، من قوله {أنعمت} ولم يذكر أحدا آخر أنعم عليهم، فالنعمة لله وحده.

15- أن الكافر عليه غضب الله والملائكة والناس أجمعين، من قوله {المغضوب عليهم} فجعل الغضب عاما، بينما نسب نعمة الهداية لله وحده، كما قال تعالى {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} وقال تعالى {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} 

آمين 

قوله {آمين} ليست من الفاتحة، ولكنها بمعنى استجب يا رب، واختلف العلماء في كلمة آمين، هل أصلها عربي أم ليس عربيا؟